أشعر بالخجل من الجيش الذى أقسمت بالولاء له فى يوم تأسيسه. هذا الجيش ليس هو الذى خدمت فيه. أشعر بالخجل من وسائل الإعلام التى كان لى دور فى بلورتها. لم تعد هى نفسها. أشعر بالخجل من دولتى التى ساهمتُ فى إقامتها والدفاع عنها فى يوم تأسيسها.
فى اليوم الأول للاحتجاج فى غزة قُتل شاب فى الـ17 من عمره، وجُرح مئات بالرصاص الحى، ولا واحدا منهم عرّض حياة مواطنى إسرائيل للخطر، ولا حياة الجنود طبعا. ولا واحدا منهم كان يحمل سلاحا، ولا واحدا منهم كان على مقربة من السياج الحدودى المقدس. لقد شاهدنا الصور على محطات التلفزة فى العالم. العالم العربى شاهد محطة «الجزيرة»، والأمريكيون شاهدوا محطة «السى إن إن». طلقات عن بعد، وطلقات على الصدر. وطلقات فى ظهور الناس وهم يهربون.
قبل أسبوع من حدوث ذلك، سُئلت كيف سترد حكومة إسرائيل على معركة غير عنفية. أجبت: بالنيران الحية. ليس لدى حكومة إسرائيل رد آخر على المقاومة غير العنيفة. ستبذل الحكومة جهدها كى تحوّل هذه المقاومة غير العنيفة إلى مقاومة عنيفة. لأن لديها ردا على العنف: عنف مضاعف ومضاعف. هذا ما حدث فى بداية الانتفاضة الثانية. فقد بدأت بمقاومة غير عنيفة، الجيش الإسرائيلى رد عليها بالنار، وبسرعة تحولت إلى مقاومة عنيفة.
المقاومة غير العنيفة هى أداة سياسية. والجواب عليها يجب أن يكون سياسيا فقط. مثل: الإعلان عن الاستعداد لتسليم الحكومة الفلسطينية المناطق المحتلة. والدعوة إلى مفاوضات، ليس مع مندوبى دونالد ترامب الشديدى الصهيونية، بل مفاوضات مع قيادة الشعب الفلسطينى. ليس هناك حل آخر. لا غدا ولا بعد سنة، ولا بعد 50 عاما.
الجيش الذى يطلق النار على جمهور أعزل ليس جيشا، هو بصعوبة ميليشيا.
أفكر «بالقناصين». القنص مهنة عسكرية محترمة. القناص هو الذى يُطلق النار على عدو مسلح، يطلق النار على الصدر. قناص مدرّب يطلق النار من بندقية قناصة على أشخاص غير مسلحين، ومن مسافة مضمونة من دون أن يجازف بنفسه، ليس قناصا وليس جنديا. ماذا نسميه؟ أسأل نفسى ماذا كنت سأفعل لو أُعطيت لى الأوامر بإطلاق النار على أشخاص عُزل. هل كنت سأرفض المهمة؟ آمل بأنه كانت ستكون لدى الشجاعة لأفعل ذلك. لكن حتى لو كنت افتقدت هذه الشجاعة لكنت سأخطئ الهدف عمدا. ولكنت أخطأته حتى لو قالوا لى إنهم «ناشطون تابعون لحماس»، أى أنهم مخربون. لكن ناشطى «حماس» الذين لا يحملون سلاحا ليسوا مخربين. هم يخدمون هيئة سياسية، تشكل حاليا الحكومة الفاعلة فى قطاع غزة، التى تُجرى معها حكومة إسرائيل اتصالات رسمية أو غير رسمية. هل من الممكن التفكير بأن ناشطى «حماس» سيبقون فى منازلهم عندما سيستجيب جيرانهم إلى دعوات «حماس» ويخرجون للتظاهر؟
أشعر بالخجل من وسائل الإعلام. عندما أقيمت دولة إسرائيل كان الإعلام أداة حكومية. وعلى هذا الأساس فى الفترة التى سبقت إقامة الدولة، كان كل صحفى كان يعتبر نفسه جنديا فى نضال الييشوف من أجل إقامة الدولة. للأسف الشديد بقيت وسائل الإعلام على هذه الحال حتى بعد قيام الدولة. «هعولام هزِه» المجلة الأسبوعية التى كنت رئيسا لتحريرها طوال 40 عاما كسرت هذا النمط. لقد احتجنا إلى سنوات حتى انضم إلينا فى النهاية جميع الصحفيين تقريبا. ونشأت وسائل إعلام نقدية. لم يعد هذا موجودا. هذا الأسبوع ظهر الإعلاميون، ومحطات الإذاعة والتليفزيون، جميعهم تقريبا كناطقين بلسان الحكومة ورئيس الأركان، ليس فقط فى استخدام صيغة التقرير الذى كُتب لهم، بل وحتى فى استخدام المصطلحات والكلمات. قلائل شذوا عن هذه القاعدة، ولهم الشكر.
نموذج آخر: منذ فترة ليس هناك فى وسائل الإعلام «أنفاق». حاليا يستخدمون فقط مصطلح «أنفاق الإرهاب» فى جميع وسائل الإعلام. حتى لو ورد ذكر ذلك عشرات المرات فى نشرة إخبارية واحدة. هذا هو المطلوب وممنوع الخروج عنه. مثلما كان الوضع فى روسيا السوفييتية.
إذن، من الذى انتصر؟ من دون شك: الفلسطينيون انتصروا. فى ذلك اليوم لم يكن ممكنا أن نفتح قناة تليفزيونية أجنبية من دون أن نرى العلم الفلسطينى يرفرف أمام أعيننا. بعد سنوات من اختفاء الموضوع الفلسطينى من وسائل الإعلام العالمية، عاد بقوة. لقد طرحت «حماس» الموضوع الفلسطينى على جدول الأعمال الدولى. أعلام، جماهير من المتظاهرين. أعلام. قتلى. أعلام. جرحى. أعلام. فى الأمم المتحدة لم يدافع أحد عن إسرائيل، حتى من قبل أصدقائنا المخلصين. مندوبنا فى الأمم المتحدة وجد ذريعة كى يتغيب.
على شاشاتنا ظهر كل أنواع النماذج. أحدهم جرى تقديمه بصفته ناطقا بلسان الجيش الإسرائيلى باللغة العربية. قلد فى أسلوب عمله جوزيف غوبلز، وزير الدعاية النازى، الذى وزع مناشير على القوات الأمريكية والفرنسية ظهر فيها يهودى سمين يتحرش بفتاة شقراء وجاء فيها: «بينما تسفك دمك، اليهودى يتحرش بزوجتك»، الضابط الذى تحدث بالعبرية وجد صورة لاسماعيل هنية يلعب بالكرة وقال: «بينما تخاطر بحياتك، هنية يلعب كرة القدم» إلى أى مستوى يمكن أن يصل بنا الانحطاط.
المهاتما غاندى ومارتين لوثر كينغ حققا نصرا كبيرا. الفلسطينيون أيضا سينتصرون فى هذه المعركة.
أورى أفنيرى
سياسى وإعلامى يسارى بارز، ومؤسس حركة ومجلة «هعولام هزه»
هاآرتس
مؤسسة الدراسات الفلسطينية