ماذا لو عاد الزمن؟ - نيفين مسعد - بوابة الشروق
الجمعة 13 ديسمبر 2024 5:41 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ماذا لو عاد الزمن؟

نشر فى : الخميس 4 مايو 2017 - 9:45 م | آخر تحديث : الخميس 4 مايو 2017 - 9:45 م
راحت بعض نسمات الهواء تهب على رضوى وصديقاتها فى إحدى أمسيات شهر يوليو شديدة الحرارة فتغريهن بمزيد من الثرثرة. اعتادت الصديقات الأربع أن تجتمعن على فترات متقطعة بما يحفظ حبل الود ولا يأخذ أكثر مما يلزم من الوقت المخصص لمشاغل الدنيا وتلاهيها. وبما أنهن اتفقن على أنه لا دين ولا سياسة فى حواراتهن كان اللقاء عادة ما يدور حول أحد الموضوعات الاجتماعية، ذات مرة تكلمن عما آل إليه حال المجتمع وعن اختفاء الاحترام فى العلاقة بين الأجيال فلم يعد الناس يتنادون بـ«حضرتك» إلا لماما وصارت القبلة على ظهر اليد دليل إهانة لا تقدير، ومرة أخرى تحدثن عن غلاء الأسعار الذى تكتوى بنيرانه الطبقة الوسطى فيجبرها على التخلى عن بعض مظاهر الترفيه البسيطة المعتادة: عشاء بالخارج فى المناسبات السعيدة أو باقة من الزهر تعطر المنزل والنفس، أما هذه المرة فكان موضوع الحديث هو ماذا كانت تود كل واحدة أن تفعله لو عاد بها الزمن إلى الوراء؟
***
قالت واحدة لو عاد بى العمر إلى الوراء لاخترت مهنة غير الطب، فعلى الرغم من كل السنين التى انقضت لم أعتد بعد التعامل مع المخدر والكمامة وغرفة العمليات. عذرا، كلمة لم أعتد ليست هى الكلمة الصحيحة فأنا اعتدتها تماما أما الصحيح فهو أنى لم أحب تلك الأشياء أبدا. أدخل إلى غرفة العمليات وجسد مسجى أمامى لشخص لا أعرفه، أشاغله بأسئلة بلهاء ريثما يسرى فى عروقه المخدر الذى أحقنه به فيغيب عن الوعى. عندما مارست هذه التجربة لأول مرة طاردنى شعور بالذنب غريب، فأنا أجعل من هذا الشخص الذى لا أعرفه نصف حى.. نعم تتردد أنفاسه.. ونعم صدره يهبط ونبضه يدق لكنه فى عالم آخر، إغفاءة عميقة لبضع ساعات يُعمِل هؤلاء المتكالبون على فراشه مشارطهم فيه وهو لا يدرى، وعندما ينتهون من عملهم يبدأ امتحانى الأصعب، فعلى الرغم من تمرسى على التخدير لسنوات طويلة تظل تحاصرنى الهواجس والأفكار الشيطانية حتى يطلق المريض أول آهة ويبدأ أول تخريف من تخاريف ما بعد الإفاقة فأحمد الله حمدا كثيرا. فَلَو عاد بى الزمن إلى الوراء لاخترت طريقا آخر، ولقمتُ بمساعدة الآخرين من داخلهم لا من خارجهم، كأن أعمل إخصائية نفسية ربما، أو صاحبة جمعية لتأهيل ضحايا العنف ربما، أما هذا العمل فلا.
***
وقالت أخرى لو عاد بى العمر إلى الوراء لاخترت انفصالا مبكرا عن الزوج الثرى الذى اختاره أهلى وإن يكن عقده على وعشرته لى وحياته معى. على عكس صديقتنا الأولى التى اعتادت عملها ولم تحبه، لم أعتد حياتى الزوجية ولا أحببتها. فى كل مرة فكرت فيها أن أنفصل كانت هناك «لا» جاهزة بتبرير مختلف وتأثير مختلف، أَعْط نفسك فرصة للتفكير، الاستواء النفسى للأولاد فى طفولتهم، سمعة الأولاد قبيل زواجهم، شيخوختى وفوات أوان الانفصال، وفى النهاية وجدت نفسى أكمل الطريق، كنت أما مضحية.. هذا صحيح، لكنى لم أكن زوجة سعيدة فالمال لا يجلب السعادة على الأقل لبعض الناس. وعندما يمتدح الأغراب علاقتى بزوجى أبتسم من براعتى فى التمثيل حتى وأنا على هذا النحو من الرفض وعدم التعود، والآن وبعد كل ما كان، أتمنى مع أول «لا» قلتها بعد شهور قليلة من زواجى لو أنى تشبثت بموقفى وهددت وغامرت وتحملت مسئولية قرارى، هل تصدقننى إن قلت إننى منذ أن طلبت الحرية لم أكن أفكر أبدا فى البديل؟ المسألة ليست فى تبديل زوج بزوج، العقدة هى فى استبدال حياة أملكها أنا بحياة يملكها سواى.
***
وبدأت الثالثة إجابتها بصوت متهدج فقالت لو عاد بى الزمن إلى الوراء لما شجعت أولادى الثلاثة على الهجرة أبدا، أحمل جزءا كبيرا من المسئولية عن وجودهم بعيدا عنى وأنا فى هذه المرحلة المتقدمة من العمر. يوما بعد يوم أفقد واحدا من الأهل أو الأصدقاء فيضيق خناق الحياة عليّ أكثر فأكثر، إن جئتن للحق بدأ الخناق يضيق علىّ منذ رحل عنى زوجى، كنا نفعل كل شىء معا فإذا أنا الآن وحدى أفعل أشياءنا المشتركة بالكاد ودون همة. عندما فاتحنى ابنى الأكبر قبل عشر سنوات برغبته فى الهجرة كنت أفضل صحة وكان زوجى معى، كنت أعمل ووقتى مشغول، ولم أشأ أن أصادر على مستقبل ابنى فتمنيت مع أبيه له النجاح وحزمت حقائبه بيدى. الأول جر الثانى والثانى جر الثالث ومع أنهم يشكون ليل نهار من قسوة الغربة ومصاعبها إلا أنهم لا يفكرون فى العودة. يكبر أحفادى فى المهجر فلا يعودون يفهمون مزاحى معهم بالعربية، ولا أعرف حينما تحين الساعة هل سيتاح لهم أن يودعونى أم لا.
***
جاء دور رضوى فى الحديث فلم تدر ما تقول، فكرت قليلا كأنها فوجئت مع أنها لم تُفاجأ، سألت: لو عاد بى الزمن إلى الوراء ماذا كنت أفعل؟ لم أكن أفعل شيئا ليس لأن حياتى مثالية فلا توجد حياة مثالية فى الواقع، لكن لأنى أفهم أن كل قرار فى حياتنا له سياقه الخاص. مثلا إذا قلت إننى لو عدت إلى الوراء لأخذتُ الأمور بهدوء أكثر وانفعال أقل فإن مثل هذا التفكير لا يصل إليه الشباب فى مقتبل العمر بل من هم فى عمرنا نحن، وهذا يعنى أنه لو عاد بى الزمن إلى الوراء لانفعلت وغضبت لأبسط الأسباب كما فعلت تماما فى شبابى، صعب أن نقيّم شبابنا فى كهولتنا. ألم أكن حتى أتمنى أن أنهل أكثر وأشبع أكثر من صحبة مَن أحبهم؟ أجل بالتأكيد لكننا فى شبابنا نعتبر أهلنا مخلدين، نتصور أنهم لا يموتون أبدا حتى وهم فى شدة المرض، نتخيل أن لديهم قدرة خارقة على التعافى من كل أمراضهم وأنهم سوف ينتفضون من أسِرَّتهم وكأن شيئا لم يكن.
***
كانت جلسة ليست ككل الجلسات فلقد نكأت الماضى وصوّرته على غير الصورة البراقة التى يتحدث بها عنه جيل الآباء والأجداد عندما يستوحشون أيام زمان التى كان فيها السعد كله والخير كله، كانت جلسة للتمرد على كل ما لم ترده الصديقات الأربع وأقل أنواع التمرد: فضفضة.

 

نيفين مسعد أستاذة بكليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة جامعة القاهرة. عضو حاليّ فى المجلس القوميّ لحقوق الإنسان. شغلت سابقاً منصب وكيلة معهد البحوث والدراسات العربيّة ثمّ مديرته. وهي أيضاً عضو سابق فى المجلس القوميّ للمرأة. حائزة على درجتي الماجستير والدكتوراه من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة – جامعة القاهرة، ومتخصّصة فى فرع السياسة المقارنة وبشكلٍ أخصّ في النظم السياسيّة العربيّة. عضو اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عضو لجنة الاقتصاد والعلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة. عضو الهيئة الاستشارية بمجلات المستقبل العربي والسياسة الدولية والديمقراطية
التعليقات