أرجو أن يسمح لي القارئ في مقال اليوم أن نتوقف قليلاً عن الحديث عن العلماء وتاريخهم وتاريخ العلوم لنتحدث عن أهمية تاريخ العلوم ولماذا يجب أن ندرسه، أو لنقل لماذا يجب أن نقرأه لأن كلمة "ندرسه" قد لا يكون لها وقع مشجع عند الكثيرين .. للأسف!
أغلب الناس تقرأ تاريخ علماء بلدها على وجه الخصوص من باب رفع المعنويات ولتشعر أن بلدها ليست أقل من البلدان الأخرى، وهذا جيد ومطلوب ومعمول به فى كل بلدان العالم.
و بعض الناس تقرأ تاريخ العلوم من باب التسلية، والتسلية فى حد ذاتها مطلوبة فى هذه الحياة حتى نستطيع أن نستمر، وما هو تسلية بالنسبة لك هو عمل بالنسبة لآخرين، المهم ألا تصبح الحياة كلها تسلية ... وإلا أصبحت حياتنا كلها نكتة!
طبعاً هناك من يقرأ هذا التاريخ من باب المنظرة بعلمهم على الآخرين، ولكن لنترك هؤلاء جانباً فهم قلة قليلة جداً.
السببان اللذان ذكرناهما فى أول المقال لها أهميتهما ولكنهما من وجهة نظرى على الأقل ليسا أهم الأسباب لقراءة تاريخ العلوم، فما هى الأسباب الأخرى؟ نحن نقرأ عن تاريخ علم من العلوم مثلا فما الذى نجنيه من ذلك؟
أولاً من قراءة تاريخ علم من العلوم نتعلم كيف تحدث الاكتشافات، نتعلم أنها لا تحدث كوحى يأتي فجأة كما تصوره لنا الأفلام والمسلسلات (من باب الإثارة)، فالعلم ليس مباراة كرة قدم حيث "الجول بييجي في ثانية"، بل تأتى نتيجة جهد وترقب وكيفية تحليل النتائج غير المتوقعة، نتعلم كيف نفكر بمنطقية وبدون رأى مسبق، فكما يقول أستاذنا الدكتور على مصطفى مشرفة فإن العلم هو البحث عن الحقيقة، والحقيقية لا تأتى أبدًا برأي مسبق أو بتمنى الحصول على نتيجة معينة، والخطوة التالية بعد قراءة تاريخ العديد من التكتشافات العلمية هو قراءة كتاب (The Logic of Scientific Discovery) أو "منطقية الاكتشاف العلمي" لفيلسوف العلم الأعظم كارل بوبر (Karl Peopper) وهذا الكتاب ليس سهلاً على الإطلاق في قراءته، ولكن قراءتنا لتاريخ العلوم والاكتشافات العلمية هى مدخلنا لفلسفة العلم بعد ذلك.
ثانياً تاريخ العلوم يعلمنا أن الفشل "خير" لابد منه، لن تجد أيًا من العلماء مهما بلغوا من العبقرية والبراعة تنجح جميع أبحاثهم حتى الحاصلين منهم على نوبل وحتى بعد أن يحصلوا عليها تكون لهم تجارب فاشلة.
و أبحاث تُرفض من المجلات العلمية والمؤتمرات (إذا تغاضينا عن المجاملات طبعاً وهى قليلة فى المجتمع العلمى الحقيقى)، ولكن الطبيعة البشرية ترفض إلا نشر قصص النجاح فقط مع أن الفشل فى بعض الأبحاث له فوائد لأنه فرصة نتعلم منها ولأنك لو لم تفشل فمعناه أنك لم تجرب الشيء الكثير أو لم تكن طموحاً بما يكفى فى تجاربك وأفكارك، تذكر أن الكمال لله وحده، والأفلام والمسلسلات التى تصور العلماء (أو الشخصيات المشهورة عامة) على أنهم ملائكة لا يخطئون هى أفلام ومسلسلات كاذبة، فهى إما تريد أن ترضى المشاهد وتثير حماسته بأن تصور أن هذا العالِم أو ذاك هو "سوبرمان" أو تخشى من أسرة هذا العالم من أن تقاضيهم إذا أظهروا أى فشل أو نقائص فى هذه الشخصية المشهورة (و هذا غالباً منتشر فى دولنا العربية فقط!).
ثالثاً تاريخ العلوم يعلمنا أن العلم نشاط إنساني تشترك فيه الإنسانية كلها، فلا توجد جنسية أفضل من جنسية، كل الشعوب تشارك فى التقدم العلمى، تذكر مثلاً أن أمريكا أصبحت قوة عظمى لأنها جمعت الجنسيات المختلفة واستفادت منها، فالذين يعيشون فى أمريكا كلهم من المهاجرين (ما لم يكونوا من السكان الأصليين الهنود الحمر طبعاً)، إذا فالاكتشافات العلمية وبغض النظر عن الدولة التى تحدث على أرضها هذه الاكتشافات هى نتيجة مجهودات كل الجنسيات والثقافات.
للأسف نحن نتذكر فقط اسم من سُجل هذا الاكتشاف باسمه، ولكن إذا قرأنا تاريخ هذا الاكتشاف لوجدنا سلسلة طويلة من العلماء من جنسيات وثقافات عدة وضع كل منهم جهد فى ذلك ومن نتذكر اسمه هو فقط من وضع البصمة أو اللبنة الأخيرة، فقراءة تاريخ العلوم تجعلنا نشعر بأهمية جميع الثقافات وأنه لا جنسية أو ثقافة أقل أو أفضل من أخرى.
رابعاً قراءة تاريخ اكتشاف علمى معين تجعلنا نفهم هذا الاكتشاف بطريقة أفضل وأعمق، علماء النفس، وعلماء التربية يقولون لنا إن القصة هى من أفضل الوسائل للتعليم، والتاريخ قصة إذا فتاريخ العلوم مفيد للأستاذ والتلميذ معاً، وإذا كنت تريد دليلاً على كلامى أنظر مثلاً كتاب (The Storytelling Animal: How Stories Make Us Human) أو "الحيوان الراوى: وكيف تجعل الرواية منا بشراً " للكاتب جوناثان جوتشال (Jonathan Gottschall).
تاريخ العلوم واسع ومتشعب جداً فكيف تبدأ؟ رأيي أن تبدأ فى قراءة تاريخ العلم الذى تخصصت فيه.
و تاريخ الاكتشافات والنظريات العلمية في هذا العلم، وصدقنى نظرتك لهذا العلم وللعلوم كلها وللتاريخ وللإنسانية كلها ستتغير!