من بين ضحايا العصر العالمى الحديث، وما أكثرها، ما حصل للقيم، سواء بالنسبة لمرجعياتها وأولوياتها أو بالنسبة لتعريفاتها غير المتعارضة وتطبيقاتها المتناسقة فى الواقع الإنسانى والطبيعى. وهذا موضوع يهمنا، نحن العرب، لأننا نواجه نفس الإشكالية على مستويين: العام الإنسانى مع الآخرين والخاص العربى المهيمن على مجتمعاتنا.
فمرجعية القيم، التى كانت فى قديم الأزمنة شبه مقتصرة فى العالم على المرجعية الدينية أو تفرعاتها الميتافيزيقية، تبدلت بصورة جذرية عند أوروبا الأنوار والحداثة، ومن ثم شتى بقاع العالم والحضارات، منذ حوالى أربعة قرون، إما إلى مرجعية فكرية فلسفية، أو مرجعية إيديولوجية سياسية، أو مرجعية علمية تجريبية. وشيئا فشيئا أبعدت المرجعية الدينية الإيمانية أو شوهت.
ولعل أوضح مظهر لأزمة القيم هو استعمالها من قبل نفس قوى التأثير والهيمنة فى عالمنا الحالى لتقود وتغير وتحسن الحياة فى مكان، ولتبرير الشرور والنهب والاستئصال والاستعباد وتشويه كل ما هو إنسانى فى مكان آخر. تماما كما فعلت تلك القوى عبر القرون الماضية من ممارسات استعمارية بحق الكثير من بلدان العالم باسم شعارات التمدين والتحديث ولكن من خلال بناء حضارة أوروبية مركزية مهيمنة.
وتماما كما تفعله الآن قوى الهيمنة العولمية الاقتصادية من بناء عالم ليس فيه إلا الغنى الفاحش الفاسق الأنانى وإلا الفقر المدقع المذل الخالى من أى أمان أو أمل، وذلك باسم قيم الكفاءة والتقدم والرفاهيات الحسية القصوى والحريات المنغلقة على الذات وغير المعنية بالاجتماع البشرى.
ولعل ما يفسر كل ذلك هو فى هيمنة المستوى السياسى للقيم على المستوى الفكرى والعقيدى، وفى الحديث عن القيم دون ذكر المبادئ الإنسانية والأخلاقية التى تتأسس عليها.
وكنتيجة منطقية لكل ذلك هو كثرة الحديث فى الغرب عن شعارات من مثل موت الحداثة والانتقال إلى ما بعد الحداثة أو من مثل نهاية التاريخ أو قرب الانتقال من المجتمعات البشرية إلى المجتمعات الآلية والتكنولوجية؛ حيث تصطاد الآلة ربها الذى أوجدها. ومن قبل ذلك ألم يعلن الفيلسوف نيتشه عن موت الإله وموت الإنسان؟
وهكذا تدفع الحياة العصرية نحو الوصول إلى دمار المعانى الحياتية لنا كأفراد وكجماعات فى كل ساحات الاختيارات المادية والمعنوية والسلوكيات الاجتماعية التى كونت تلك الحياة عبر العصور المتعاقبة.
من هنا وصول البعض إلى المناداة بأن الثورة فى القيم ومن أجل القيم قد أصبحت أهم من أى عنوان ثورى آخر، خصوصا بعد أن بدأت مؤسسات محورية كالأسرة وأنظمة الحكم الديموقراطى والاقتصاد تعانى الأمرين بسبب إشكاليات مرجعيات وتطبيقات القيم فى عصرنا الحاضر.
ما يهمنا التأكيد عليه مرة ثانية هو أننا، نحن العرب، كأفراد وجماعات ومجتمعات، نواجه نفس المشهد فى حياتنا اليومية. وأننا، نحن أيضا، لدينا فوضى فى مرجعيات القيم وأولوياتها والمبادئ التى تقف وراءها وفى مكانتها فى كل نشاطاتنا المادية والمعنوية. وهذا يستوجب أن يصبح هذا الموضوع أحد أهم مواضيع الساعة فى الحياة الفكرية والسياسية والاجتماعية والثقافية العربية.
وفى الواقع فإن مهمتنا مزدوجة ومضاعفة. فمن جهة علينا صد الهجمة الثقافية العولمية الخارجية المليئة بمعاداة الكثير من القيم الإنسانية وقيمنا، ومن جهة ثانية علينا معالجة ما اعترى قيمنا من أمراض وعلل وإهمال بسبب تخلفنا الحضارى الذاتى عبر عدة قرون. ولذلك يهمنا شد انتباه شابات وشباب الأمة، المناضلين من أجل إحداث تغييرات كبرى فى مجتمعاتهم المستقبلية، لأن يعطوا مكانة خاصة لموضوع تثوير القيم فى مكونات وأهداف ومنهجيات حراكاتهم الجماهيرية المستقبلية. ومن أجل المساهمة سنناقش الكثير من جوانب الموضوع فى مقالات قادمة.