تساؤل ملح لعله يكون واقعيًا ومطروحًا دومًا بشدة بين أوساط الطبقة القارئة والمثقفة والفكرية، ففى المشهد القرائى الذى يحيط أى مجتمع بالعالم، هو هل توفى الكتاب الورقى التقليدى الذى كنا نلامس طياته وأوراقه؟ المؤكد أن الإجابة لا ترتبط بكلمات ومفردات بل تتعلق بسلوك وعاطفة واتجاه مع ظهور التكنولوجيا الرقمية وانفجار المعلومات وانتشار كاسح للأجهزة اللوحية والهواتف الذكية والقارئات والكتب الإلكترونية هنا يوحى لنا المشهد أن الكتب الرقمية أصبحت خيارًا شائعًا ومتفوقًا على خيارات الورق بين القراء. لكن هل هذا يعنى أن الكتاب الورقى فى طريقه إلى الاختفاء والذوبان ثم الوفاة أم أن أهل القراءة تضاءلوا أم سادت الخيارات الجديدة وسيطرت بسحرها الإلكترونى فى الواقع؟
لا يمكننا إنكار وإهمال فكرة أن الكتاب الورقى قد فقد بعضًا من بريقه، فى ظل الثورة الرقمية الهائلة التى نعيشها فى وقتنا الحاضر. إلا أن هذا لا يعنى بالضرورة أنه سيتلاشى مع تفاؤل الكثير أن هناك جوانب عديدة تجعل الكتاب الورقى ما يزال يحتفظ بمكانته وقد يكون ارتياد معارض الكتب وكثافة ونشاط دور النشر.
ظهر القول بموت الكتاب الورقى مع الطارئ التقنى الذى أرخى ثقله وسطوته فى كل الاتجاهات الإنسانية ولعل تلاشى وانتهاء كثير من الصحف والأعمال الورقية، عززت اتجاها تجسد على أرض الواقع صحف بلا أوراق ومكتبات بلا جدران.
الحال هنا لا تتطلب عمل مقارنة بين ميزات الكتاب التقليدى والإلكترونى فكلُ يدرك الفروقات ويميل إلى ما يرغبه ويختاره، كل هذه الميزات التى يجدها الكثير فى الكتاب الرقمى لم تجعله يلغى الكتاب الورقى بالمعنى الذى حدث فى بعض الصحف الورقية، حيث ساد سلوك اتصالى جديد.. لكن الواضح أن كثيرين من الجيل القديم يفضلونه على الكتاب الرقمى، خاصة إذا كان من الكتب القديمة القيمة، فالكتاب القديم القيم يمنح قارئه إحساسا نوعيا وهو الملامسة الوجدانية والفكرية وحمل قيمة بين اليدين باستخدام مرن فى الوقت والطريقة ولا شك فى أن هناك من يستحضر بهمة ونشوة ما ورد فى كتبه الورقية ويتعايش بروح ما قال الجاحظ فى الكتاب أنه «الجليس الذى لا يطريك، والصديق الذى لا يغريك، والرفيق الذى لا يملّك... وهو الذى إن نظرت فيه أطال إمتاعك، وشحذ طباعك، وبسط لسانك.. وهو الذى يطيعك بالليل كطاعته بالنهار، ويطيعك فى السفر كطاعته فى الحضر، ولا يعتلّ بنوم، ولا يعتريه كلال السهر. وهو المعلّم الذى إن افتقرت إليه لم يخفرك..».
وتلك الميزات التى يتمتع بها الكتاب الورقى، والتى ترسخت فى وجداننا الجمعى يجعلنا مطمئنين إلى أن الكتاب الورقى سوف يواصل ركضه مع الكتاب الرقمى إلى زمن غير معلوم.
لدينا إشكالية قد تواجه الكثير من الناس الذين يقتنون كتبا ورقية، ويزينون بيوتهم بمكتباتهم الخاصة المنزلية الثرية عددا وتصنيفا وقيمة فى حالة رحيل صاحب المكتبة فقد يصطدم أهل البيت بمسألة ماذا نفعل أو نعمل بمجموعات هذه الكتب فتقع الحيرة فى أنفسهم خصوصا إذا هم ليسوا من أهل المطالعة، ولا يرغبون فى القراءة واقتناء الكتب الورقية فإن كانوا مهتمين ولم يبالوا بوضع المكتبة فلا يبادروا بأمر اتجاهها هنا قد يقترح بعضهم بإبقائها وتركها كذكرى ويستمر فى صيانتها ورعايتها، ومنهم من يهملها، وقسم يرى بيعها، وآخر بإهدائها فيبدو الأمر كورطة ما بين الإبقاء والخلاص.
وحقيقة من لا يميل إلى القراءة وحب الكتب ستعانى المكتبة منه ولن يدرك قيمة الإرث الموجود خصوصًا أن تضمن المجموعات كتب نادرة ومميزة مضمونا وثقلا إذا سيكون التفريط فيها بلا إحساس واعٍ فهو يجدها مقتنيات كغيرها سهل التخلص منها.
ما لفت انتباهى وجود جمعية موقرة وهى جمعية العناية بالمكتبات الخاصة تُعنى بمجاميع الكتب فى المكتبات المنزلية والخاصة والتى يريد أصحابها أو ورثة وغيرهم إيجاد حلول كتدوير الكتب ومنحها للراغبين، ودعم المكتبات العامة وتزويدها، والمبادلة، لاستفادة مثلى لمجموعات ومقتنيات مكتباتهم ومثل هذه الجمعية بأهدافها الخيرية ودعمها وجهودها وإدارتها الرائدة تسهم بجدية ونشاط فى مساعدة الراغبين أو «المتورطين»، وذلك فى إنقاذ الموقف، وإحداث فرق كبير فى حياة ورغبات الناس الذين هم فى أمس الحاجة لبعض الكتب كالطلاب والباحثين والمثقفين وأصحاب المشاريع الثقافية والفكرية، والتبرع للجمعيات الخيرية، ونقل واقع الكتب من الهدر إلى الأجر وهذا جهد تشكر عليه الجميع بتبنيها وتحملها هذه المسئولية الكبيرة.
ومن الجميل إن أمكن إقامة معارض للكتب المستعملة وتوزيعها خيريًا، أو إتاحة اجتماعات وحفل للمبادلة والإهداء، أو التنسيق ومد الجهات المختلفة بما يناسبها من كتب تنقصها كالمساجد، والمدارس، والجامعات أو الأقسام فى الكليات، أو مخاطبة أعضاء التدريس وغير ذلك، أو تجهيز حاويات لجمعها ثم فرزها والتصرف بالجيد والمناسب منها أو بيع ما ليس فى حالة صلاحية لمصانع تدوير الكتب.
جمعية العناية بالمكتبات الخاصة جهة معتبرة على عاتقها مسؤولية ثقيلة فى التحقق ممن يستحق هباتها من الكتب، وجعل جهودها مستدامة ونامية ومتطورة ومستوعبة لكل مستجد واحتياج لتحقيق أهدافها، ومتابعة كل واهب ومستحق، وتنفيذ خططها فمثلًا يمكن مستقبلًا أن تحتاج لعملية التعشيب «صيانة وترميم الكتب المهترئة»، وكذلك الاستبعاد المتمثلة فى عملية مُراجعة مُقتنيات المكتبة المُتوافرة فيها، وفرزها وتقييمها من أجل التخلُّص الجُزئى من بعض الكتب والمواد المكتبية الأخرى كالمجلات والمطويات التى أصبحت معلوماتها قديمة، وغير دقيقة، والتى أصبح استخدامها قليلًا وتُشغل حيّزًا فى رفوف وخزانة الجمعية، كذلك لعل الجمعية أن تبحث وتدرس حلولًا لمشكلة الكتب المدرسية المهدرة، والمؤكد أن الطموحات فى هذه الجمعية كبيرة وواسعة والتوقعات أنها قديرة وجديرة فى حمل هذا العبء وضمان استمراره وتنميته كما يجب.
عبدالعزيز اليوسف
جريدة الرياض السعودية