عن تسوية الملعب الدولى: حالة أوروبا - محمود محي الدين - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 4:49 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عن تسوية الملعب الدولى: حالة أوروبا

نشر فى : الأربعاء 4 سبتمبر 2024 - 7:55 م | آخر تحديث : الأربعاء 4 سبتمبر 2024 - 7:55 م

فى أثناء إعدادى لتقديم جديد لكتاب قمت بترجمته منذ سنوات تحت عنوان «أوروبا تاريخ وجيز» للمؤرخ جون هيرست، سألت أحد الخبراء فى الشئون السياسية الأوروبية عن مدى كفاءة تطبيق استراتيجية الأمن الاقتصادى للاتحاد الأوروبى، فأجابنى بقوله: أى منها؟ فهى كثيرة تتشكل من مجموعة من الاتفاقات، والقرارات، والتعهدات، والتوصيات. فهى تضم مثلا حزمة الدفاع عن الديمقراطية، ومبادرة البوابة العالمية التى تهدف إلى دفع الترابط بين المشروعات الذكية والنظيفة والآمنة فى مجالات التحول الرقمى والطاقة والنقل، وكذلك تدعيم نظم الصحة والتعليم والبحث العلمى حول العالم؛ وهناك تشريع المواد الخام النادرة الحيوية، أضف إلى ذلك قانون الرقائق الإلكترونية وأيضاً قانون الحياد الصفرى. وهى تشكل معًا مجموعة من الوثائق بدرجات إلزام مختلفة، بهدف التمكين الاقتصادى لأوروبا فى الساحة الدولية.

 

وأضيف إلى ما تقدم تلك المبادرة، الخلافية، المعروفة بآلية معادلة الكربون عبر الحدود، والتى ستكون لها آثار وتداعيات مهمة على صادرات البلدان النامية لأوروبا من الصلب والحديد والألومنيوم والأسمدة والإسمنت ومنتجات الهيدروجين والكهرباء. وستدخل حيز التنفيذ فى عام 2026، ويجرى التجهيز الانتقالى لها منذ عام 2023 حتى نهاية العام المقبل.
وكما يتندر البعض، فيبدو أن الأوروبيين يتناولون استراتيجية على الإفطار كل صباح. فهناك صناعة ضخمة وراء صياغة هذه الاستراتيجيات داخل الدواوين البيروقراطية وأقسام إعداد الرؤى والسياسات الرسمية، فضلا عن المئات من مراكز البحث الأكاديمية والمكاتب الاستشارية التى تتبارى فى تطوير وتقييم هذه الاستراتيجيات.
ومن أمتع المراجع الموسوعية عن الاستراتيجية وتاريخها كتاب السير لورنس فريدمان، أحد أهم خبراء الحرب والسياسة الدولية. والاستراتيجية فى نهاية الأمر، كما يبسطها مايكل بورتر أستاذ إدارة الأعمال فى جامعة هارفارد، هى عبارة عن اختيارات محددة بين بدائل للتوصل إلى أهداف بعينها. ومع اعتبار أن بورتر فى تحديده للاستراتيجية انصب اهتمامه على التنافس فى الأسواق، فقد اختار خمسة عوامل مرشدة لاتخاذ القرار هي: مخاطر دخول قوى منافسة جديدة فى السوق؛ ومخاطر القابلية للاستبدال بأن تفضل السوق بضاعة المنافس، ومخاطر زيادة القوة التفاوضية للموردين؛ ومخاطر زيادة القوة التفاوضية للمشترين، وحدة التنافسية. ويحتاج الأمر عمليا إلى الجمع بين منهج فريدمان للاستراتيجية فى السياسة الدولية، واقتراحات بورتر لقادة الأعمال فى تعاملهم مع الأسواق، للتعرف إلى ما أصبو إليه من تقييم استراتيجية الأمن الاقتصادى الأخيرة للاتحاد الأوروبى.
وفيما يتعلق باستراتيجية الأمن الاقتصادى، التى تأتى على امتداد تاريخ من محاولات لإقامة كتلة جيوسياسية متماسكة، فقد أعلن الاتحاد الأوروبى عن خمس مبادرات لتنفيذها: الأولى تدقيق ومراجعة قواعد فحص الاستثمار الأجنبى المباشر القادم لأوروبا؛ والثانية تطوير ضوابط الرقابة على الصادرات، وبخاصة فيما يتعلق بالمنتجات التكنولوجية المتطورة؛ والثالثة تأسيس نظام لفحص الاستثمارات الأوروبية المباشرة إلى خارج دول الاتحاد وتتضمن التوافق مع توجهات مجموعة السبع بشأن التكنولوجيا الحيوية، أشباه الموصلات، الذكاء الاصطناعى، تكنولوجيا الكم والتكنولوجيا الحيوية؛ والرابعة تطوير البحث التكنولوجي، إدراكاً بأن الولايات المتحدة تستحوذ على أكثر من 40 فى المائة من البحث والتطوير على مستوى العالم وتتبعها الصين بنحو 18 فى المائة ويليها مباشرة الاتحاد الأوروبى بنفس النسبة تقريبا؛ والخامسة منع «التسريب» من منظومة البحث والتطوير بحظر أطراف ثالثة من البلدان من الاشتراك فى أبحاث يمولها الاتحاد الأوروبى فى قطاعات حيوية للأمن الأوروبى.
وكما ذكرت فى تقديم سابق للكتاب المترجم عن تاريخ أوروبا، «فليدون فى أوراق الاستراتيجيات ما يدون، فالعبرة دائما وأبدا بالتنفيذ وبنتائج تحدث أثرا فى تقدم الدول ومكانتها وأوضاع الناس فيها، إذ يزخر تاريخ أوروبا، فى مختلف عصورها، باستراتيجيات ومشروعات كانت أكثر طموحا من قدراتها، وأشد صعوبة على إمكانيات قادتها على تنفيذها». فلم تفتقد استراتيجيات سابقة الطموح الواجب، ولكن أعاق تنفيذها كوابح بيروقراطية ورياح مناوئة بصدمات سريعة لم تكن لتشتهيها مؤسسات بطيئة العمل. فالاستراتيجية هى عملية متكاملة باختيارات لمن يملك القرار، والقدرة على تنفيذ ما اختاره.
ويشير مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، بواشنطن، إلى معوقات محتملة عند تنفيذ استراتيجية الأمن الاقتصادى أولها قدرة الاتحاد الأوروبى على حض أعضائه على تنفيذ مبادراتها الخمس؛ ثانيها قدرة الاتحاد على التعامل مع رد فعل الدول المتأثرة خارجيا بهذه الاستراتيجية وتحديدا الصين؛ الثالث، وهو الأهم فى تقديرى، توافر الإرادة السياسية، وبخاصة مع تغير القيادات بفعل الانتخابات، أو تغير توجهاتها بافتراض استمرارها فى الحكم بعدها.
فضلاً عن هذه الاعتبارات التنفيذية، فهناك مبدآن يخشى انتهاكهما عند التطبيق، أولهما أن الأمن الاقتصادى لا يتحقق لبلد أو لكتلة من البلدان بعزلتها، ولكن بفاعلية اندماجها وكفاءة انخراطها فى التجارة الدولية والاستثمار. كذلك فإن فرض حماية على صناعات وأنشطة منحدرة الكفاءة ليس من الأمن الاقتصادى فى شىء، فلهذا تكلفة تتحملها الموازنات والأوضاع المعيشية للمواطنين.
فى مقال مهم للاقتصادى جون بيسانى فيرى بعنوان «ما المطلوب لإنقاذ أوروبا؟» يشير فيه إلى تحديات اقتصادية كبرى تواجهها تتمثل فى تراجع التنافسية وأزمات الطاقة والأمن. وهى تحديات تزيد، فى رأيى، من ضعف القدرة على مواجهتها التركيبة السكانية المعتلة وتداعيات تغيرات المناخ، ومشكلات التفاوت فى الدخول وتباين فرص العمل. ويذكرنا تاريخ أوروبا بأن مثل هذه التحديات قد تسلك أحد طريقين: الأول، بحسم مبكر لها بقيادات واعية تصل بأوروبا لشاطئ آمن، والطريق الآخر هو الفشل الذى يصير وقودا لنزعات عنصرية وصراعات، وربما الحرب.

التعليقات