رؤساء عمل تعلمت منهم - جميل مطر - بوابة الشروق
الأربعاء 15 أكتوبر 2025 2:09 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

برأيك.. هل تنجح خطة الـ21 بندًا لترامب في إنهاء حرب غزة؟

رؤساء عمل تعلمت منهم

نشر فى : الثلاثاء 14 أكتوبر 2025 - 7:05 م | آخر تحديث : الثلاثاء 14 أكتوبر 2025 - 7:05 م

بحكم تنقلى بين عديد الوظائف والمهام تعدد من ساقنى الحظ للعمل تحت رئاستهم. منهم الصالح ومنهم الطالح ومنهم جميعا استفدت. قليل من خلف جروحا لم تندمل، ولعله من حسن حظى، وحظوظ مرءوسين عملوا معى من بعدهم، أنها لم تندمل. أعترف هنا، وربما للمرة الأولى، أننى بذلت من الجهد والمثابرة ما يكفى لمنعى من أن أقع ذات يوم فى نفس الخطأ أو أرتكب نفس الجرم. أعترف أيضا، وبالتأكيد ليس للمرة الأولى، أننى مدين بكل حسنة التزمتها ونصر حققته لوالد قام بواجبه وأساتذة فى الجامعة اهتموا بإرشادى ورؤساء عمل أخلصوا فى عملهم خلقا وعلما وكفاءة ووطنية فكانوا نعم النموذج والمثال.

كنت فى الثامنة عشرة كثير التردد على مكتبة مركز الاستعلامات الأمريكى فى حى جاردن سيتى. هناك أقمت علاقات طيبة مع العاملين المصريين وكلهم من الخبراء فى علم المكتبات وتعرفت على المدير الأمريكى للمكتبة خلال واحدة من جولاته التفتيشية على أفرعها. تحدث فعلمت أنى أثرت فضوله واستحسانه بما أقرأ وكيف أقرأ وبما أختار من أشرطة الموسيقى وبالعلاقات التى أقمتها مع العاملين بالمكتبة فى مختلف التخصصات ومن مختلف الأعمار. تحدث إلى أن وصل إلى غايته وهى عرض بالعمل بعض الوقت بالمكتبة مسئولا تحت إشرافه المباشر عن قسم الحيازات، وهو القسم المسئول عن اختيار وشراء الكتب والدوريات الجديدة على ضوء الميزانية المتاحة.

• • •

تمنيت، وأنا فى الثامنة عشرة، أن أتعامل مع المرءوسين عندما أتقدم سنا ومرتبة بـنفس أسلوب المستر (ل) فى التعامل معى وزملائى فى العمل. تعلمت كيف وضرورة أن أبتعد بالسياسة الداخلية عن أجواء العمل، رأيته حريصًا على الاهتمام بمشكلاتنا الشخصية إذا نحن سمحنا له بذلك. راقبت سلوكه فى حضرة رئيسه فى العمل، أقصد السفير الأمريكى، أذهلنى أنهما يتنادين بالاسم الأول لكل منهما، وهو ما استبعدت إمكان حدوثه فى ظل ثقافتنا المحافظة. أذهلنى فى الوقت نفسه أن كثيرا ما حلت هذه الصراحة محل الدفء الذى نفتقره فى علاقاتنا بالأجانب. كبيرا أيضا كان اهتمامه بمستقبلى الأكاديمى وحرصه على تنمية آفاق تفكيرى وأحلامى. تعلمت منه أهمية أن ينتقل كرئيس من مكتبه إلى حيث كانت مكاتبنا نحن المرءوسين والاستماع إلى اقتراحاتنا فى شأن تحسين ظروف العمل. لا أتذكره غاضبا ولا كاذبا ولا منافقا. أتذكره دائما صادقا وصديقا. أتذكره مباشرا وواضحا وواثقا. أظن أننى حاولت فى مستقبلى التحلى بصفة أو أخرى من هذه السمات والصفات. أفلحت حينا وأخفقت أحيانا ولكن لم أستسلم لأى إخفاق.

• • •

تغيرت الظروف وتغيرت طبيعة العمل وتغير الرؤساء وتغيرت السمات والصفات. عينت وكلفت لأعمل مع رئيس من بلدى لا يميل بحسه ونشأته وأجواء دراسته وعمله السابق إلى اعتناق سمة أو صفة من هذه السمات والصفات الطيبة. أتوا به إلى هذه الوظيفة وهذا المكان تحت انبهار عابر وّذهبوا بى إليه عساى أتعلم. تعلمت شاكرا ألا أكون يوما فى العمل مثل هذا الرئيس، وألا أكون فى شكله ولا فى طباعه ولا فى أخلاقه. تعلمت الشىء الأهم، تعلمت أن أقول لرئيسى إنه على خطأ، وإننى وأنا أصغر مرءوسيه وأحدثهم فى المكان، لن أسير معه على طريق الخطأ.

الرئيس التالى فى حياتى الدبلوماسية كان مختلفًا عن سابقه فى كل السمات والصفات وأقرب فيها إلى أول رئيس فى حياتى العملية. لم يكن له باع فى الدبلوماسية ولكن علمته تجربته وتربيته الجرأة والقدرة على المواجهة وقول ما اعتقد أنه الحق وإن على خطأ وعدم إدراك كافٍ لطبيعة هذا العمل الذى ارتضاه لنفسه أو فرضته الظروف. كان أمينا فى نقل الرسالة مرفق بها رأيه داعيا رؤساءه فى القاهرة لرفضها أو قبولها والبناء عليها. كانت مصر كلها فى أوج الاستعداد لبناء سد عالى فصرنا ونحن فى آخر العالم خبراء ومهندسين وحمالى أسمنت وعملاء نتقصى تفاصيل الأسطورة الصينية فى بناء السدود بأقل تكلفة لننقلها لمصر.

• • •

عملت مع آخر وفى مهنة أخرى. معه وفيها اقتربت جدا إلى قلب بلدى وقلوب أخرى. تعلمت منه أن «المعلومة» سلاح وثروة وأن التعامل معها فن من أرقى الفنون، وأن تجميع مفرداتها وتحليلها علم واسع، وأن العيش فيها وعليها مهنة هى بين أقدم المهن. تعلمت الكتابة لقارئ غير متخصص، وغير ملم أو مهتم بدقائق السياسة أو الاقتصاد أو القانون. تعلمت أننى لو شئت إقناع متخصص أو متبحر فليكن عبر كتابة مختلفة وهى ليست مسئوليتى المباشرة على كل حال. تعلمت أهمية أن أحاول قبل أن أمسك بالقلم أن "أحيّد" غضبي، وأحاول بعد الكتابة وقبل النشر أن أدفع به إلى زملاء، هم أيضا مرؤوسون، أثق بنضج تفكيرهم وعمق خلفياتهم وتنوع مذاهبهم الفكرية. تعلمت جديدا فى أصول التعامل مع رؤساء الدول. تعلمت أن الرئيس، أى رئيس، لا بد وأنه سوف يحترم الضيف الذى يمتلك أكبر ثروة ممكنة من المعلومات. هو الضيف أو الزائر الذى يستحق تزويده أو تكريمه بالمعلومة النادرة أو الغريبة أو المبهرة.

• • •

لم يذهب سدى ما تعلمت. أشعر بالرضا، ففى ظنى وتقديرى أننى استفدت من تنوع رؤسائى وتجاربى عبر مختلف مسيرات حياتى. قضيتها حياة غير مملة.

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي