فى أواخر تسعينيات القرن الماضى، أو مطلع القرن الجديد بعام تقريبًا، صدرت طبعة من كتاب «حديث السندباد القديم»، للمثقف الموسوعى الدكتور حسين فوزى، عن هيئة قصور الثقافة فى سلسلتها الرائعة (ذاكرة الكتابة) وكان يترأس تحريرها آنذاك الكاتب الكبير الراحل رجاء النقاش.
كنتُ سمعت بالكتاب لكنى لم أكن قرأته، حصلت على نسخة من الطبعة الجديدة، وشرعت فى قراءته؛ وكانت مفاجأة سارة من كل الوجوه؛ لم يكن الكتاب كما تصورت دراسة جافة وخشنة عن تاريخ علوم وأدب البحار فى التاريخ والثقافة العربية، والحضارات القديمة، إنه شىء أمتع وأجمل وأكثر فائدة وقيمة مما تصورت!
كان الكتاب اكتشافًا حقيقيا لوجه آخر من وجوه حسين فوزى المتعددة؛ وجه الباحث المطلع الموسوعى؛ وجه الأديب المطبوع على الكتابة بسلاسة وعمق وجمال؛ عبارته ناعمة وجملته رقيقة (يذكرنى بدرجة ما بعبارة جمال حمدان الأسلوبية التى لا مثيل لها فى جمال تصويرها وانسيابية تركيبها).
يعالج كتاب «حديث السندباد القديم» الذى صدر للمرة الأولى عام (1943) تاريخ المحيط الهندى كما عرفه البحريون العرب، فيما بين القرنين التاسع والرابع عشر؛ أى فى المرحلة السابقة على عصر الاكتشافات الكبرى، وقد نجح حسين فوزى فى هذا الكتاب فى أن يعبر عن تصوراته للتاريخ الحضارى لأمته من خلال إعادة تمثل رحلات السندباد البحرى وما تضمنته قصص (ألف ليلة وليلة) وكتاب (عجائب الهند) المنسوب إلى بزُرْك بن شهريار الناخذاه الرامهرمزى.
كنت فى ذلك الوقت متشبعا حتى النخاع بشغف القراءة عن (ألف ليلة وليلة) ليس باعتبارها قصصًا وحكاياتٍ تحولت إلى حلقات إذاعية مثيرة للخيال على يد المرحوم طاهر أبوفاشا، بل باعتبارها كنزا سرديًّا وإنسانيًّا ومعرفيًّا وحضاريًّا اكتشفت قيمته وأهميته على يد أساتذتنا الكبار فى مصر والعالم العربى؛ وعلى رأسهم طبعًا أستاذة الأجيال سهير القلماوى بدراستها الرائدة «ألف ليلة وليلة».
تقريبًا كنت قرأت كل ما كُتب بالعربية عن هذا المنجم الحكائى السردى؛ لكننى لم أقرأ نصًا عن (ألف ليلة وليلة)، ولا عن حكاياته ومضامينه وإشاراته التاريخية والأسطورية، بعذوبة وجمال وروعة «حديث السندباد القديم».
أنت تقرأ قصيدة عذبة رائعة لا تملك بعد قراءة مقطع منها إلا أن تصيح منتشيا «الله.. الله». هذه كتابة جميلة غاية فى الجمال؛ لا تسعى إلى أكثر من تصوير وتسجيل أثر (ألف ليلة وليلة) فى نفس قارئها حسين فوزى؛ وكذلك تتبع الأثر ذاته للحكايات والأساطير والقصص التى ارتبطت بالبحار والارتحال بين الجزر والموانئ (الواقعى منها والخيالى) فى نصوص الأدب العربى.
يقول الناقد الكبير صبرى حافظ عن «حديث السندباد القديم»: «استطاع حسين فوزى أن يتعامل مع كنوز الكتب والموسوعات العربية الكبيرة بأسلوب عالم الآثار الذى ينقب فى طبقات الوعى المعرفى ليكشف لنا عن أركيولوجيا العقل العربى فى تعاملها مع العالم الخارجى جغرافيًّا وإحيائيًّا، من ناحية، ومن أركيولوجيا الخيال العربى فى إحالتها كل تلك المكتسبات المعرفية والإنجازات الإبداعية إلى عمل أدبى عظيم من ناحية أخرى، فليس كتابه دراسة جافة لهذه الكتب الزاخرة بالمعارف، إنما هو عمل علمى أقرب ما يكون إلى الإبداع الخلّاق الذى يعيد فيه تأسيس مفردات الأسطورة العربية على أساس معرفى راسخ».
لقد كان «حديث السندباد القديم»، كما وصفه بصدق المرحوم فؤاد دوارة فى حواره الشهير مع مؤلفه «رحلة خيالية فى الزمان والمكان، يعود بخياله إلى المحيط الهندى لا كما عرفه منذ عشر سنوات، بل كما عرفه البحارة العرب قبل عصر الاكتشافات البحرية الكبرى التى بدأت بوصول «بارتولوميو دياز» إلى رأس الأعاصير والطريق الحيوى من القارة الإفريقية، ثم اقتحام فاسكو داجاما بحر الهند ويباشر بدورانه حول رأس الرجاء الصالح، أتبعت برحلة كولومبوس إلى العالم الجديد، وهو يحسب أنه يسلك طريقا غريبا إلى الهند وبلاد الذهب، ويقال إن «شهاب الدين بن ماجد النجدى» كان دليل فاسكوداجاما فى رحلته من ماليندى على الشاطئ الشرقى للقارة الإفريقية إلى فليفوط على الشاطئ الغربى لشبه الجزيرة الهندية».
رحم الله حسين فوزى.. وكل الكبار الذين قدموا إبداعات أصيلة وحقيقية تستحق البقاء والخلود.