التاريخ ــ ونحن من المفترض أن نكون من أكثر الأمم وعيا بالتاريخ ــ يراقبنا ويتابعنا، وسيحكم علينا. سيقول كلمته فى الشعب، وسيقول كلمته فى الجيش، وسيقول كلمته فى القيادات السياسية.
أما الشعب فصبر لما صبره طال. ولما وجد إنه مش بس بيتسرق، وبيُستغَل، وبيتجوَّع، ويتهزأ، ويتذل، ويُفترى عليه وتتسوّأ سُمعته، بل إنه بيتغرَّب عن شخصيته وعن روحه ــ قام وثار. وكانت عبقريته إنه جسد فى ثورته كل الصفات اللى بيعزَّها فى نفسه واللى حاولوا يقتلوها فيه: الإقدام، والشجاعة، والمسالمة، والجدعنة، والتكافل، والدعابة، والمرح، والفهلوة، والصياعة، والحرفية، والإبداع ــ والصَبر برضه. لأنه لسه صابر. بس بطريقته. مش عارفين تفعَّلوا الثورة من فوق؟ إحنا الشعب هنفعَّلها من القواعد: هنشكِّل نقابات، ونطلع فى إضرابات، ونغَيَّر قيادات، ونجمع معلومات، ونقدم بلاغات، ونتسلق سفارات، ونألف أغنيات، ونكتب تويتات وبلوجات ومقالات ــ يعنى بالعربى كده: مش هنسكت، ومش هنهمد ومش هنسمح للأوضاع ترجع زى ما كانت بأى حال من الحالات.
وأما القيادات السياسية فهى شغالة ــ كالمعتاد ــ حسابات، وتقسيمات، ومغالطات. وقد خذلتنا مرات ومرات، بدءا من أثناء الثورة وبعدها مباشرة حين عجزت عن إفراز أى تكوين يستطيع أن يتحدث بكلمة واحدة هى كلمة الشعب ــ ووقتها كانت كلمة الشعب واحدة، وواضحة، وقوية ــ إلى كل الجرى الذى نراه فى المواقف المطلوب فيها الثقل والرصانة (الجرى إلى المجلس العسكرى، أو إلى تكوين تكتلات ضد بعض) والحرنان أو عدم التواجد أصلا فى المواقف المحتاجة لتحرك وحسم.
يعنى اللقاء الأخير مع المجلس ــ لو هنخرج بالنتيجة دى كان على الأقل المجلس العسكرى هو اللى يروح للـ«قيادة» فى بيتها يقدم لها مطالبه.
المشكلة فى الواقع إن «القيادات السياسية» ــ مع كامل الاعتراف لكل منهم بالأمانة الشخصية، وبحُب الوطن والرغبة فى خدمته والنهوض به ــ ليست فى أغلبها «قيادات»، وليست فى أغلبها «سياسية». فهى لم تترق من وسط عمل شعبى طويل، أو نضال نقابى مثلا، ولم «تتودك» على لعبة السياسة من خلال عمل حزبى جاد، أو عمل فى المحليات مثلا، أو فى أروقة ولجان البرلمان ــ أو أى جهة من التى نراها، فى بلاد أخرى، تنتج قيادات سياسية. وهذا ليس ذنبهم، فالنظام الذى عاشت به البلاد على مدى الجزء الأكبر من أعمارنا جميعا لم يكن يسمح بأنواع العمل والمشاركة والنشاط التــى تــــؤدى إلــــى توليد وتربيـــــــــة وصقل قيادات سياسية.
ولكن هناك ظروفا تحتم على الكائن الحى أن يتعلم بسرعة جدا ويتغير ويتطور فى لمح البصر بفعل ــ تقريبا ــ إرادى، وهذا هو المطلوب الآن من القيادات (وهذا كان جزءا من إعجاز الفعل الشعبى فى الـ١٨ يوما). ويمكن أول تغَيُّر واللى مش محتاج وقت إن كل من يجد نفسه الآن فى موقع قيادى يقعد مع نفسه ويسأل هو بيقود مين وبيمثل مين والناس دى عايزه إيه ــ مش هو عايز لها إيه ــ هى فعلا عايزه إيه، ويفهم نفسه يعنى إيه «يُمَثِّل»، فالحقيقة إننى لا أشعر بأن الواحد منهم وهو داخل على المجلس بيكون حاسس إنه ليس بشخصه صاحب القرار، بل إنه مجرد الـ «أفاتار» (لنستلف كلمة من الشباب) الذى قدر له فى هذا الموقف أن يمثل إرادة من أرسلوه.
والحاجة الثانية: بلاش توافقوا على حاجة دلوقتى. يعنى إنت رُحت للمجلس، واتناقشت واتفاوضت، وفهمت رؤيته وحدوده، قول للمجلس عن إذن سيادتك بس هارجع للناس اللى أنا بأُمثلها أعرض عليها الكلام ده وأرُدّ عليك خلال يومين. طبعا كل قيادة تخاف تعمل كدة لحسن القيادة اللى جنبها تتقدم وتبصم وتدى المجلس ما يريده. وعلشان كده لا ينفع فى وضعنا الحالى التعامل ــ وبالذات مع القوة المسيطرة ــ من منطلق حزبى، بل علينا التعامل من منطلق جبهة وطنية تمثل الشعب إلى أن نصل إلى حكم مدنى. وهكذا نعود إلى بداية المشكلة فهذا ما يعرفه الشعب ويقوله من يوم ــ تقريبا ــ ٣ فبراير وعجزت «القيادات السياسية» عن إسعافنا بيه.
يا قياداتنا، التاريخ يراقبكم. الأكرم والأفيَد إن لم تستطيعوا تمثيل الشعب أن تصارحوا المجلس بهذا، فلا يجد من يجرى إليه ويتفق معاه باسم الشعب.
وأما الجيش، فهو زيه زى الشعب، طبقات. فيه العسكرى الغلبان، وفيه الظابط التقنى المهنى اللى عايز يخدم بلده وكمان عايز يعيش كويس، وفيه القيادة: المجلس الأعلى للقوات المسلحة. والحقيقة ان المجلس صعبان عليّا، فهو خارج منطقة الخبرة بتاعته تماما، كما إنه خارج أى سياق أو منظومة تعامل يفهمها ويرتاح إليها. الجيش مؤسسة مركزية القرار، تتسم بالهايراركية إلى أبعد الحدود، والطاعة قيمة عليا فيها. وفى ميدان فعل القوات المسلحة، ميدان المعركة، الدنيا مقسومة نصين واضحين: نص معاك، يعمل حسب خطة تضعها القيادة، وهو حتى ما يعرفهاش فهو عليه أن ينفذ فقط، ونص ضدك وعليك إنك تقتله، أو على الأقل تضعه فى حالة تنعدم فيها فاعليته.
طيب الشعب بقى فين من ده؟ لا يطيع ولا يأتمر ــ حتى لو قياداته أبدت استعدادها للطاعة والائتمار. والمجلس عنده من لا يأتمر إما متمرد أو عدو. وهو خدنا بالراحة شوية، وبعدين بدأ ياخدنا على جنب ويأدبنا، وبعدين بدأ يقبض علينا ويحاكمنا عسكريا ــ وهو أقصى ما عنده للمتمرد. بعد كده بقى يبقى التعامل مع عدو ــ وهذا ما حذرنا منه المشير فى حديث «صابرين، صابرين».
المجلس بيغلط لإنه مش فى وضعه الطبيعى ــ ومن يحب الجيش المصرى ويحرص على سمعته ومكانه فى التاريخ عليه أن يساعده لأن يعود بأقصى سرعة إلى مكانه الطبيعى فى حماية حدود البلاد وسيادتها، ويبتعد تماما عن التعامل مع المدنيين. وهذه مهمة القيادات السياسية الآن: أن تعدل موازين البلد: الشعب له دور، والجيش له دور، وكل واحد يقوم بدوره لأجل خاطر البلد عشان عيون التاريخ ــ وبسرعة. هذه لحظة التعلم بل والنبوغ السريع.
فحتى الآن من الواضح إن هو برضه الشعب ــ الشعب اللى المجلس ساعة يأدبه، وساعة يصبر عليه، وساعة يعلمه الديمقراطية، واللى السادة القيادة السياسية يصفونه بالـ«بسيط» أحيانا، والـ«مضحوك عليه» أحيانا ويجزمون باستحالة «توعيته» فى الوقت المتاح حتى الانتخابات (أيا كان تاريخ هذه الانتخابات!) ــ هو برضه الشعب فقط اللى شاعر بالمسئولية التاريخية، يقول ج. ب، أحد شباب الشعب، فى تغريدة على تويتر: «وبعدين خلصوا الثورة دى بنجاح ــ الاجيال الجاية هاتسلخنا وهانعيش تريقة زى جيل السبعينات وانيل!».