(1)
لكل منا، فى مستهل حياته العملية، نموذج ناجح أو (أكثر) يستحوذ على اهتمامه، ويفضله على غيره، وقد كنت فى أول طريقى فى الصحافة الثقافية؛ والبحث الأدبى، مفتونا باسمين كبيرين؛ هما الراحلان رجاء النقاش، وفؤاد دوارة، كلاهما كان مثقفا كبيرا وباحثا دءوبا، وكلاهما كان على اتصال جاد بإنتاج أعلام عصرهما، وكلاهما كان غزير الإنتاج والتأليف، كانا ملء السمع والبصر فى مصر والعالم العربى طوال النصف الثانى من القرن العشرين.
لم يخطر ببالى يوما أننى سأحترف الصحافة، وأجرى حوارات مع كبار صناع الفكر والثقافة والأدب والنقد، ليس فى مصر وحدها بل فى جميع أرجاء عالمنا العربى إلا بعد أن قرأت الحوارات التى أجراها فؤاد دوارة، ونشرها فى واحد من أهم وأقيم بل أجمل وأمتع كتبه.
أذكر أننى فى صيف عام 1994 وأنا فى زيارتى اليومية لمكتبة الهيئة العامة للكتاب بالجيزة، أن وقع تحت يدى كتاب متوسط الحجم أنيق القطع بعنوان «عشرة أدباء يتحدثون» لفؤاد دوارة. لم تكن المرة الأولى التى أقرأ فيها اسمه على كتاب من الكتب، تذكرت أننى أجد اسمه فى كل جزء من أجزاء الأعمال الكاملة للجد العظيم يحيى حقى التى أكملتها الهيئة العامة للكتاب فى تسعينيات القرن الماضى.
وتذكرت أيضا أن له كتابا آخر عن أديب نوبل الكبير بعنوان «نجيب محفوظ من المحلية إلى العالمية».
اشتريت الكتاب، وكان ثمنه مرهقا لطالب مثلى ما زال فى الصف الأول الثانوى. قرأت المقدمة والحوار الأول مع طه حسين، ورغم قصره البالغ، وإجابات طه حسين المقتضبة، أعجبنى أسلوب المحاور وذكاء الأسئلة وقدرته على صياغة الفكرة.
(2)
لكن هذا لم يكن كل شىء فى هذا الكتاب الكنز؛ فحين وصولى إلى حواره مع العظيم محمد مندور، أدركت أن الكتاب يتجاوز فكرة جمع حوارات صحفية مع أهم وأبرز كتابنا ومبدعينا ونقادنا من جيل الرواد؛ إنه قطعة حية من تاريخنا الأدبي؛ ينبض بالروعة ويتجلى بالقيمة؛ وأدركت أنه لولا فؤاد دوارة، ولولا هذه الحوارات الفاتنة النادرة، لفاتنا ما ظللنا نتحسر عليه قرونا؛ ولا أبالغ لو قلت إن هذه الحوارات كانت ملهمة، وما زالت، لكل من اشتغل بالصحافة الثقافية، كى ينجز عملا فى قيمة وروعة «عشرة أدباء يتحدثون».
كنت كلما مرت بى لحظات يأس وإحباط أعاود قراءة الحوار الطويل الذى أجراه مع مندور؛ لم يكتب مندور سيرته الذاتية، ولو كتبها لا أظن أنها ستكون بجمال وجاذبية وعفوية ما سرده فى هذا الحوار الطويل، عن حياته وكفاحه المشرف، ورحلته العلمية والأكاديمية، وعلاقته بأساتذته ومسيرته مع الأدب والنقد والسياسة والصحافة!
كان حوارا تسجيليا وتأريخيا من طراز رفيع؛ ولا أتصور مهتما أو باحثا أو دارسا لسيرة محمد مندور وأثره لم يتوقف عند هذا الحوار، ولم يفد منه؛ ولقيمته وما قدمه من بيان وكشف ليس لهما مثيل فى حياة مندور (وقد كان أهم حوار وأطوله أجرى مع مندور قبل وفاته) صدر به فؤاد دوارة كتابه عن محمد مندور الذى صدر فى سلسلة نقاد الأدب عام 1995. (سيضيف إليه ــ بعد ثلاثين عاما ــ فصولا ثلاثة تنهض بهذا الحوار وتتأسس عليه، إذ تعيد الفصول ترتيب تفاصيل الحوار ليتتبع عبرها فؤاد دوارة سيرورة تحولات محمد مندور بزواياها المتعددة، وليضىء مجمل إنجازه النقدى وحضوره الثقافى ودوره السياسى قبل وبعد ثورة 1952).
(3)
ولم يكن حوار مندور الوحيد هو الذى كان على هذا المستوى من الجدة والقيمة والدقة؛ معظم حوارات الكتاب كانت كذلك؛ مثلا حواراته مع فتحى رضوان، ومحمود تيمور، ومحمد فريد أبو حديد، أما الحوارات الباقية مع كل من توفيق الحكيم، يحيى حقى، حسين فوزى، ونجيب محفوظ، ستظل حوارات تأسيسية، ربما تكون الحوارات الأهم التى أجريت مع الأربعة الكبار.
وأكاد لا أشك لحظة فى أن الحوارين اللذين أجراهما دوارة مع نجيب محفوظ، كانا هما الأساس والدافع اللذان ألهما فيما بعد جمال الغيطانى فى حواره المطول مع محفوظ فى ثمانينيات القرن العشرين، ونشر فى كتابه ذائع الصيت «نجيب محفوظ يتذكر»، ولرجاء النقاش كذلك الذى أصدر كتابه الأهم عن «نجيب محفوظ ـ صفحات من مذكراته وأضواء على أدبه» 1995..
(وللحديث بقية) ...