فى كل يوم تفاجئنا تلك الدولة بموقف سياسى نبيل وشجاع، من مثل استدعاء سفيرها أو قطع علاقاتها مع الكيان الصهيونى احتجاجا على ممارساته للإبادة الجماعية بحق أطفال ونساء وشيوخ فلسطين الساكنين غزة المحاصرة المستباحة الجائعة. وبين الحين والآخر تفرحنا تلك المغنية التى ترفض حضور حفلة غنائية كاحتجاج على تلك الممارسات الصهيونية اللاإنسانية، ويبهرنا ذلك الرياضى برفضه الدخول فى منافسة رياضية ضدّ رياضى يمثل الكيان الصهيونى كإشارة ليقظة ضمير احتجاجى ضدّ أبشع أنواع الجرائم الإنسانية التى ترتكب فى فلسطين المحتلة. ويوميا نشاهد الملايين من مواطنى دول العالم المختلفة يجوبون الشوارع وهم يطالبون بإيقاف حرب الإبادة فى الحال وبإنزال العقاب بمن يرتكبونها بحق المدنيين الفلسطينيين العزّل.
يوميا نرى أو نسمع تلك المشاهد التى تجرى فى البعيد، فى بلدان لا تربطها بالعرب إلا رابطة الأخوة الإنسانية المشتركة والتزاماتها الأخلاقية والقيمية، ونردد فى داخلنا بأن العالم لا يزال بخير وبأنه يحمل فى أعماقه بشائر حياة بشرية مشتركة مبنّية على قيم المحّبة والتضامن والمروءة ومحاربة الظلم والانتصار لفضيلة العدالة.
لكن ما إن يرتدّ بصرنا إلى أنفسنا فى طول وعرض وطن العرب حتى نشعر بالحزن واليأس والذلّة أمام المشهد العربى، سواء أترسمه أغلبية أنظمة الحكم أم أترسمه أغلبية المجتمعات وأكثرية الشعوب، وهو يقف مواقف اللامبالاة أو العجز أو مرض الضمير تجاه مأساة الشعب العربى فى فلسطين المحتلة.
ولولا مواقف القلة من الشرفاء والأبطال الذين يحاربون بكل ما يملكون من حماس وقوة وبأس، ويواجهون العدو الصهيونى ومسانديه من دول الاستعمار الغربى على الأخص، ويموتون بكرامة الشّهم ومروءة البطولة، لقلنا بأن الأمة قد ماتت وتعيش فى قبر نهايتها وموتها التاريخى المأسوى.
يطرح الكثيرون السؤال التالى: إذا كانت مأساة كهذه المأساة التى يردد الملايين يوميا بأنها أسوأ من المآسى التى عرفتها البشرية فى القرون الأخيرة، ويشبهها البعض بأنها مماثلة لإلقاء القنبلة النووية على هيروشيما من قبل الأمريكيين، إذا كانت هذه المأساة لا تستدعى تفعيل رابطتين أساسيتين فى حياة العرب والمسلمين، رابطة أخوة العروبة ورابطة الأخوة الإسلامية، بل بالعكس إذ أنها قادت إلى شبه الموت السريرى لرابطتى الجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامى، فما فائدة بقاء المؤسستين؟ هل أصبح وجودهما عبارة عن تلفيق وكذب على النفس وتخدير لمشاعر الشعوب العربية والإسلامية؟
ثم ما الذى بقى من قيم وأخلاقيات العلاقات الاجتماعية التاريخية فى المجتمعات العربية والإسلامية الحاضرة لم تدنّسه وتدمّره تلك المشاهد التى ميّزت مواقف أنظمة الحكم والمجتمعات العربية والإسلامية خلال الشهور الخمسة الماضية؟ فلقد داست الأرجل قيم الأخوة والكرم والوقوف مع المظلوم والاستجابة لنداء الملهوف والدفاع عن شرف المرأة المهانة والدفاع عن الطفل المعتدى عليه وعلى ضعفه وبراءته. حتى القيم البدوية، التى تغنّى بها الشعراء عبر القرون، قيم العصبية والفروسية والضيافة والحرية والحشمة والتعقّل، تلاشت واختفت أمام جرائم الإبادة الصهيونية – الاستعمارية فى غزة الباكية المستنجدة، ولات نجدة.
ثم ماذا عن أحد مكونات الإسلام الكبرى: وهو الخلق؟ أليس الموقف الضعيف المتردّد الذى وقفته بعض أنظمة الحكم والمجتمعات الإسلامية فيه عدم الوفاء بالعهد، وأنه نقض للميثاق، وأنه مخالفة لقول الله: «إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذى القربى»، ومخالفة لقول الله: «والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض»، وفيه موقف مضاد لقول الله «واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا... ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير... ولا تكونوا كالذين تفّرقوا... واختلفوا من بعد ما جاءتهم البيّنات»... إلخ... من المخالفات الصريحة لما جاء فى القرآن الكريم؟
ولو أردنا أن نذكر العشرات من الدّوس على المصالح المشتركة وعلى المشاريع المستقبلية من خلال التصالح مع العدو الصهيونى فى الوقت الذى نتجاهل فيه آلام ومآسى فلسطين المحتلة لاحتجنا إلى كتب ومجلدات. ولكنا آثرنا أن نشدّد فى هذه العجالة على الجانب القيمى والأخلاقى الذى يحتاج إلى تفعيله فى أوقات المآسى والتعرّض لأذى الغير، إذ إنه المدخل إلى كل العلاقات بين العرب والمسلمين.
فعندما نرى مجمل المشهد العربى والاسلامى ندرك أن روابط وقيم هويتى العروبة والإسلام قد هوت، وعلينا أن نفعل شيئا فاعلا، وذلك قبل أن تتهاوى الأمة العربية ومعها الأمم الإسلامية وراء تهاوى القيم.