من أفجع وأحقر ما أظهرته حقبة الجهاد التكفيرى العنفى، وخصوصا تجلياته المنحرفة فى إدارة ما عرف بالخلافة الإسلامية فى القطرين العربيين، العراقى والسورى، هو تعامل المنتسبين لذلك التيار مع المرأة. إنه تعامل متوحش وغير أخلاقى، ولا صلة له بالإسلام الذى يدّعون بأنهم من حملة راياته ومبادئه.
إن ما أفصحت عنه النساء الهاربات من جحيم الأسر والعبودية والسبى والاغتصاب والبيع كسلعة الذى عشنه لا ينم فقط عن أمراض نفسية وعقلية وخلقية عند ممارسيها، وإنما ينم أيضا وبنفس القوة، عن وجود خلل ثقافى ودينى هائل فى فهم موقف الإسلام من المرأة، لا من قبل أفراد الجماعات الجهادية التكفيرية فقط، وإنما من قبل الملايين من المسلمين العرب. فما كان باستطاعة تلك البربرية أن توجد لولا وجود أجواء وثقافات تاريخية عدائية تجاه المرأة عبر السنين والقرون.
ولذلك فنحن أمام جرس إنذار يدق بقوة وعنف يصم الآذان، جرس التنبيه إلى أن موضوع المرأة برمته فى المجتمعات العربية، القائم على الاحتقار والعدوانية والظلم والتهميش، ما عاد يمكن السكوت عنه، إذ وصل إلى مستوى الكبائر والجرائم والموبقات.
والسبب الرئيسى، بصوت عال لا غمغمة فيه، هو المفاهيم الفقهية المتخلفة التى أصر عليها وعلى نشرها الكثير من الفقهاء، دون أن يكترثوا للتضاد الواضح بين ما يدّعون وبين ما يقوله الإسلام نصوصا ومقاصد كبرى وروحا بالغة الحساسية تجاه فضائل العدالة والرحمة والإنصاف.
***
دعنا، كمثال أول، نبدأ من ما يعرف بالخطيئة الأولى، أى خروج آدم وحواء من الجنة. إن القرآن يضع المسئولية على كليهما فى آيتين، وعلى آدم وحده فى آية واحدة ثالثة، ولا يضع اللوم على حواء وحدها فى أية آية، ومع ذلك أصر الكثير من الفقهاء على أن المرأة هى التى أغوت وخدعت آدم وأخرجته من الجنة. بل ويتجرأ ابن جرير الطبرى فى تفسيره فينسب إلى الله أنه جل جلاله قال لها: «أنت غررت عبدى»، ويهلوس ابن المسيب بأنه «ما أكل آدم من الشجرة وهو يعقل، ولكن حواء سقته الخمر»، وينقل ابن كثير فى تفسيره عن التراث اليهودى بأن آدم قد قال: «حواء أمرتنى». لقد تغلبت سلوكيات العصبية ضد المرأة عند هؤلاء وعند الكثير من الفقهاء على عدالة الدين.
لنأخذ، كمثال ثانٍ، الموضوع الأكبر فى حياة المرأة والرجل على السواء: موضوع الزواج. فى القرآن الكريم توصف تلك العلاقة بالشكل التالى: «ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا، لتسكنوا إليها، وجعل بينكم مودة، ورحمة، إن فى ذلك لآيات لقوم يتفكرون» (الروم،21). وفى مكان آخر وصف لا يعلو عليه وصف: «هن سكن لكم وأنتم سكن لهن».
فماذا يقول الفقهاء عن تلك العلاقة المبنية على المودة والرحمة والسكينة؟ مذهب يعرف الزواج بأنه «عقد لمجرد متعة التلذُذ بآدمية»، ومذهب آخر بأنه «عقد بلفظ النكاح على منفعة الاستمتاع»، ومذهب آخر بأنه «عقد يفيد ملك المتعة قصدا وهو معقود للرجل دون المرأة»، ومذهب آخر يتكلم عن «نكاح المتعة».
ويتجرأ البيهقى فيقول على لسان النبى العفيف الطاهر بأن «النكاح رق»، ويعلن الترمذى عن عبودية جديدة للمرأة فيكتب: «لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها»، وينبرى مسلم ليحط من شأن النساء بالقول «لولا حواء، لم تخن أنثى زوجها الدهر»، وبالقول «إن المرأة تقبل فى صورة شيطان وتدبر فى صورة شيطان»، ويصل الاحتقار للمرأة إلى ذروته بأقوال للإمام أبو حامد الغزالى بأن «ما نزلت على أمتى فتنة أضر على الرجال من النساء«، ويردف لا فض فوه «ما رأيت من ناقصات عقل ودين أسلب للب الرجل الحازم منكن يا معاشر النساء».
بل إن أروع النساء عند الغزالى من «إذا تزوج عليها ثلاثا أطعمته الطيبات وقالت: أذهب بنشاطك وقوتك إلى أزواجك».
عندما تتناقل آلاف الكتب الفقهية تلك التعابير والصور البشعة التى تصور المرأة بأنها شيطان، ومصدر إغواء، ووسيلة للمتعة الجسدية والغرائز الجنسية فقط، وتطلب منها السجود لزوجها، ثم يقرأ كل ذلك المسلمون الشباب وتردد كل ذلك يوميا محطات تليفزيونية دينية. عندما يحدث كل ذلك، وتخلق بيئة تحتقر المرأة وتعاديها وتعتبرها سلعة للمتعة وعبدة لزوجها، فلماذا نستغرب أن نرى ونسمع عن الموبقات التى يرتكبها الكثير من المنتمين لحركات الجهاد التكفيرى العبثى بحق النساء والفتيات الصغيرات فى كل أرض يحكمونها؟
***
نعم، لقد وجدت محاولات إصلاحية وقرارات فقهية إنسانية للرد على كل تلك البذاءات التى قيلت بحق المرأة، لكن لم يتكون بعد تيار كبير يعتد به، ولم تقم وزارات التربية والثقافة والإعلام والشئون الدينية بحملات مستمرة لا تتوقف ولا تهدأ قط، ولم تشرع البرلمانات قوانين تردع وتعاقب بمستويات عليا، ولم توقف الحكومات بحزم أية جهات دينية وأى رجل دين يعارضون مساواة المرأة والرجل فى كل الحقوق وكل المسئوليات وكل الفرص الحياتية. السخف الفقهى الذى حط من قدر المرأة العربية، المسلمة وغير المسلمة، عبر القرون، يظهره الجنون الحالى الذى نعيشه فى كل الأرض العربية. كما يظهر أن موضوع حقوق المرأة العربية الإنسانية الكاملة يجب أن نتعامل معه كأقدس المقدًسات، وكأولوية قصوى، وكاستجابة للتوجيهات الربانية العادلة، وليس كخطابات ووعود موسمية.