مثلما أهمل أو أجّل الانتقال إلى الديموقراطية فى شتّى الأيديولوجيات القومية العربية خلال القرن الماضى، فكذلك حدث الأمر نفسه بالنسبة لمكوّن آخر بالغ الأهمية هو التنمية العربية المستديمة المستقلة. من هنا صدور العديد من تقارير برنامج الأمم المتحدة الإنمائى عن تعثر مشاريع التنمية المستدامة الشاملة فى كل أقطار الوطن العربى سنة بعد أخرى.
لكن المجموعة الفكرية التى راجعت الفكر الأيديولوجى القومى منذ بضعة عقود واقترحت المشروع النهضوى العربى انتبهت للأمر وجعلت شعار وهدف التنمية المستدامة المستقلة أحد مكونات المشروع الست (الوحدة العربية، الديموقراطية، الاستقلال الوطنى والقومى، التنمية المستقلة، العدالة الاجتماعية والتجديد الحضارى). وهو ما يجعل بالضرورة التنمية المستقلة أحد مكونات بناء الحداثة العربية الذاتية التى يدعو لبنائها الكثيرون.
وحتى تنسجم هذه التنمية مع ذاتية الحداثة العربية سيحتاج شباب وشابات الأمة أن يصّروا على أن لا تكون تلك التنمية اقتصادية فقط، كما تريدها بعض مدارس الفكر الاقتصادى العولمى، وإنما أن تكون ضمن المعطيات التالية:
أولا: أن يكون تعريفها شاملا ومرتبطا بحاجات المجتمعات العربية من مثل التعريف الذى وضعه الأخ الدكتور على الكوارى: بأنها «عملية مجتمعية واعية ودائمة موجّهة وفق إرادة وطنية مستقلة من أجل إيجاد تحوّلات هيكلية وإحداث تغييرات سياسية واجتماعية واقتصادية تسمح بتحقيق تصاعد مطّرد لقدرات المجتمع وتحسين مستمر لنوعية الحياة فيه».
ثانيا: أن تكون من مكوناتها الفكرية الأساسية ما صدر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائى: الرفاه، بتوسيع الحريات الحقيقية للبشر لينموا ويرتقوا، والتمكين والقدرة على التغيير، والعدالة وتعزيز الإنصاف.
ثالثا: توفّر شروط محورية لا يمكن بناء تنمية مستقلة بدون توفرها: توفّر رأسمال محلى تراكمى سواء على المستوى الوطنى والمستوى القومى، وتوفّر قدرات تقنية وبشرية متطورة، بما فيها أخذ القدرات العربية الشاملة لكل الوطن العربى والقدرات العربية المهاجرة إلى البلدان المتقدمة بعين الاعتبار، وأخيرا وجود سوق عربية واسعة مشتركة متناسقة ومتضامنة فى نشاطاتها.
رابعا: الخروج من الاقتصاد الرّيعى، بكل نواقصه ومحدودياته، إلى اقتصاد إنتاجى وخدمى ومعرفى وتكنولوجى ذاتى وغير طفيلى وقادر على توليد ثروات جديدة تراكمية، مع ما يستلزمه ذلك من تغييرات كبرى فى برامج التعليم والبحوث والإعداد المهنى والتعليم المستمر لكى تتناغم مع تطورات النشاطات الاقتصادية المتسارعة.
خامسا: وهى تنمية تعطى أولوية قصوى لتلبية الحاجات الإنسانية الأساسية لكل أفراد المجتمع من طعام ومسكن وملبس وعمل ورعاية صحية وتعليم للجميع وأمن ووسائل نقل وخدمات ثقافية ولا تنتقل إلى تلبية الرغبات الكمالية والترفيهية، التى تطلبها أقلية من المجتمع، إلاّ بعد أن توفّر كل تلك الحاجات الأساسية. من هنا طرح برنامج الأمم المتحدة الإنمائى شعارا للتنمية مفاده أنها «تنمية الناس من أجل الناس وبواسطة الناس».
مثل هكذا تنمية إنسانية أخلاقية متوازنة تتطلب تخلص الإنسان العربى من ثقافة الخوف من حرية الفكر والسلوك المنضبط وضرورة التقدم إلى الأمام المطلوبة للتعامل مع مرتكزات العصرنة والحداثة بعقلانية واستقلالية وشجاعة.
سادسا وأخيرا: الابتعاد عن الاعتقاد الخائف بأن تؤدى الاستقلالية التنموية العربية إلى عزلة أو قطيعة مع العالم الأجنبى الخارجى، وإلى الانكفاء على الذات. فهذا أولا غير ممكن فى عصر الترابط العولمى الحالى وثانيا سيضّر بالاقتصاد العربى نفسه.
فالمقصود بالاستقلالية هو عدم الخضوع للإرادات الخارجية والاعتماد على حرية وممارسة الإرادة الوطنية والقومية. فالإرادات والإملاءات الخارجية لا تهدف إلا إلى توسيع مكتسباتها هى فى الدرجة الأولى. إن بلادا عانت الأمرّين عبر العقود الطويلة من ويلات الاستعمار تحتاج أن تكون شديدة الحساسية تجاه الخضوع لإرادات الخارج، حكومية كانت أو خاصة.