يعرف دارسو ودارسات علم الاقتصاد ومن يعمل فى المجالات الاقتصادية المختلفة ما يعرف باسم «دراسات الجدوى» وهى نوع من الدراسات المتخصصة التى تقدم تحليلا وافيا عن مدى جدوى إقامة مشروع معين من خلال مقارنة التكلفة بالعائد المتوقع.
فى عالم البيزنس والقطاع الخاص، فإن التكلفة والعائد تعرفان بشكل غير معقد، فمثلا لو أراد رجل أعمال إقامة مدينة ألعاب مائية فى دولة نامية، فإن دراسة الجدوى الخاصة بهذا المشروع ستقوم بعقد مقارنة بين التكلفة المتمثلة فى الموارد المالية اللازمة للمشروع وعدد العمالة اللازمة والتكاليف التنظيمية والإدارية والقانونية الخاصة بالمشروع، بالإضافة إلى الوقت اللازم لإنجازه.
وفى مقابل ذلك يتم حساب العائد والذى يتمثل أساسا فى الربح المتوقع من المشروع على المديين المتوسط والطويل. ولعقد هذه المقارنة يتم تحليل العديد من العوامل منها طبيعة المكان المقترح للمشروع ومدى توافر خدمات لوجستية له وطبيعة البنية التحتية ومدى قدرتها على دعم المشروع ومساعدته فى النجاح.
كذلك يتم أيضا تحليل الأوضاع الاقتصادية فى البلد المقترح فيه المشروع، وطبيعة تفضيلات الطبقة الأكثر احتمالا لأن تكون المستخدم الأكبر لهذه المدينة الترفيهية، ومدى استقرار الأوضاع الاقتصادية فى هذا البلد وفى البلدان المجاورة وطبيعة المدن الترفيهية المنافسة سواء القائمة داخل هذه البلد أو القريبة منه.
وأخيرا يتم وضع تحليل خاص بالمعاملات الحكومية وطبيعتها وتكلفتها مثل الضرائب وإجراءات تخصيص الأرض وطبيعة النظام القضائى فى حالة التقاضى، بالإضافة إلى أى معايير أخرى قد تشترطها الحكومة مثل المعايير البيئية أو الأمنية أو غيرها.
تأخذ دراسة الجدوى بعض الوقت، لكن معظم المستثمرين لا يمانعون تأخير مشاريعهم فى مقابل تأكدهم من سيناريوهات المكسب والخسارة، فالأمر فى النهاية مصلحة خاصة ولابد من التأكد من أن الاستثمار سيكون فى محله!
• • •
أما فى حالة المشروعات العامة، كمشروعات الإسكان العام أو الطرق والكبارى والمواصلات وغيرها من مشروعات البنية التحتية التى تتحمل ميزانية الدولة بالأساس تغطية تكلفتها فإن هناك العديد من العوامل الأخرى التى يتم أخذها فى الاعتبار، إذ إن تعريف التكلفة والعائد يختلفان عن المشروعات الخاصة فى هذه الحالة. فمن ناحية، تكون حسابات التكلفة مختلفة نظرا لأن العناصر المتضمنة فى التكلفة قد تكون موارد عامة وهو سلاح ذو حدين، حيث قد تبدو التكلفة منخفضة نظريا لأننا نستخدم موارد عامة (أرض مملوكة للدولة، عمال شركات عامة، شركات بناء حكومية أو تابعة للحكومة بشكل أو بآخر) ولكن فنظرا لأنها موارد عامة فإن المسئولية تجاهها تكون أكبر والتعامل معها يكون أكثر حرصا من صناع القرار نظرا لمسئوليتهم أمام الشعب وخاصة فى الدول الديموقراطية.
ومن ناحية ثانية فإن حسابات العائد تكون أيضا مختلفة، لأن العائد فى حالة المشروعات العامة لا يتم حسابه فقط بالقيم المالية والأرقام، ولكن قد يؤخذ فى الاعتبار العديد من الأمور الأخرى منها العائد الاجتماعى كإنشاء مرافق سكنية للأشخاص محدودى الدخل، ومنها العائد الاقتصادى، كإنشاء الطرق والكبارى وشبكات الاتصالات من أجل جذب الاستثمارات، ومنها العوائد الثقافية والتعليمية والصحية كإنشاء المدارس والجامعات والمستشفيات ودور الرعاية.. إلخ.
ورغم هذا الاختلاف بين طريقة التحليل الخاصة بدراسات الجدوى بين المشروعات الخاصة والمشروعات العامة، إلا أن الاتفاق هو أنها تظل ضرورية، بل وفى حالة الدول الديموقراطية هى إلزامية. إلا أن ثمة مشكلتين ظهرتا خلال العقود القليلة الماضية بخصوص دراسات الجدوى فى الدول التى تصنف بين ديموقراطية وبين مختلطة (فى منطقة وسط بين الديموقراطية والسلطوية)، ناهينا عن الدول غير الديموقراطية!
• • •
تمثلت المشكلة الأولى فى أن صناع القرار فى العديد من الدول لم يهتموا بنتائج دراسات الجدوى، حتى لو كانت الدراسة نفسها قد تم إجراؤها، وذلك بسبب شعور صانع القرار بتعطل المشروعات التى يرغب فى إنجازها أثناء فترة ولايته ومن ثم كان هناك تجاهل أو تحايل على نتائج هذه الدراسات، ومن ناحية ثانية، كانت العديد من دراسات الجدوى تظهر نتائج سلبية بخصوص المشروعات المزمع تنفيذها بسبب ضعف الموارد أو زيادة المخاطر فى مقابل التكلفة ورغم ذلك كانت تتم هذه المشاريع!
ظهرت هذه المشكلة فى إيطاليا (تصنف كدولة ديموقراطية) وماليزيا (تصنف كدولة مختلطة) على سبيل المثال خلال العقد الماضى.
فى إيطاليا أظهرت نتائج تحقيقات مشتركة بين اللجان البرلمانية والجهات التنفيذية أن العديد من المشروعات العامة التى يتم تنفيذها على المستويات المحلية لا تحقق المرجو منها بسبب تجاهل أو عدم الاهتمام بدراسات الجدوى! وعندما تم بحث المشكلة بشكل أكبر، ظهرت شكوى كبيرة بخصوص رغبة الجهات التنفيذية فى تنفيذ المشاريع العامة بالتعاون مع القطاع الخاص، ولكن فى ظل جدل كبير حول المفاهيم والمعطيات والمعايير المستخدمة فى دراسات الجدوى بين القطاعين العام والخاص حيث يستخدم كل منهما نماذج مختلفة من هذه الدراسات تعطلت العديد من هذه المشروعات المشتركة!
وفى ماليزيا فإن العقد الماضى كان واحدا من أكثر العقود فسادا فى تاريخ البلاد بحسب العديد من التقارير الدولية ومعظم حالات الفساد تعلقت بالمخصصات العامة للمشروعات الخدمية كمشروعات الإسكان، بالإضافة إلى فساد آخر مرتبط بالشراكة بين القطاعين الخاص والعام، وهو الفساد الدى دفع رئيس الوزراء السابق رزاق نجيب ثمنه فى سجون البلاد!
بعد سجن رزاق أعادت ماليزيا تعريف التعاون بين القطاعين الخاص والعام عن طريق وضع لغة ومعايير مشتركة لتصميم نموذج موحد لدراسات الجدوى وعملية تخصيص الموارد للمشروعات العامة بين القطاعين الخاص والعام، وهو نفس الأمر الذى حدث فى إيطاليا حيث قامت وحدة تقييم الاستثمارات العامة والتى كانت قد أنشئت فى عام ١٩٩٨ وتقع مباشرة تحت سلطة وزارة التنمية الاقتصادية منذ عام ٢٠٠٧ بوضع نموذج صارم ملزم لكل الجهات الحكومية الإيطالية المعنية بتخصيص موارد لتنفيذ مشروعات عامة محلية بالتعاون مع القطاع الخاص، معيدة تعريف مصطلحات التكلفة والعائد وملزمة لجميع الجهات بأخذ المخاطر المستقبلية الخاصة بأى مشروع فى الاعتبار قبل تنفيذه بما فيها أى مخاطر اجتماعية أو اقتصادية قد تأتى من خارج إيطاليا!
• • •
الحقيقة أن دراسات الجدوى لا تهدف إلى تعطيل المشاريع العامة، كما أنها ليست قائمة على اعتبارات أو حسابات غير واقعية، ولكن بالعكس، فإن هذه الدراسات تهدف إلى تحقيق الاستفادة القصوى من الموارد العامة بما يحقق الصالح العام ومن هنا فإنها تهتم بأدق تفاصيل تخصيص الموارد وبطبيعة العوائد الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فدراسات الجدوى ليست معنية بسرعة الإنجاز، ولكنها معنية وخصوصا فى حالة المشروعات العامة بتوسيع قاعدة المستفيدين من موارد الدولة ولا سيما فى أوقات الأزمات.