كنت من بين سعداء الحظ الذين حضروا يومًا استثنائيًا نظمته الجمعية المصرية للدراسات التاريخية، السبت الماضى، تمثل فى محاضرتين هامتين للغاية أدارهما بكفاءة الدكتور حاتم الطحاوى.
قدم المحاضرة الأولى الدكتور عماد الدين هلال رئيس قسم التاريخ فى جامعة قناة السويس وهو صاحب إسهام بارز فى دراسة تاريخ مؤسسة الفتوى، كما أنه بدأ حياته بدراسة علمية فريدة حول تاريخ البغاء لا تزال تحظى باهتمام كبير رغم مرور أكثر من ربع قرن على نشرها.
تحدث هلال حول الأعداد والأرقام لدى العرب، وفرق بين العدد والرقم، مؤكدًا أن الأعداد لا نهائية، بينما الأرقام ليست كذلك، كما تتبع وضعية الأعداد فى المصادر الدينية والتاريخية وفى الأحاديث النبوية وغير ذلك من المتون التاريخية.
ورغم غرابة موضوع المحاضرة فإنها كشفت طبيعة التحول الذى حدث فى الدراسات التاريخية ناحية ما يمس الحياة اليومية بوجه عام وهو ما أشارت إليه الدكتورة حنان حماد فى محاضرتها، وهى أستاذ تاريخ العرب ودراسات الشرق الأوسط بجامعة هيوستن الأمريكية، ولها دراسات مهمة حول عاملات المحلة الكبرى وحول الفنانة ليلى مراد انطلاقًا من مفاهيم جندرية.
تحدثت حماد عن تناول الباحثين الأجانب لتاريخ مصر انطلاقًا من منهج (التاريخ من أسفل) وهو منهج شاع فى العالم قبل 40 عاما ويبحث فى شكل الحياة اليومية للمواطنين خارج دوائر الثروة والنفوذ باعتبارها المادة التى تصنع الحركة التاريخية.
والشاهد أن مصر عرفت دراسات كثيرة من هذا النوع كانت أسبق زمنيا من نشأة هذا المصطلح وكانت فى أغلبها من قبل مؤرخين هواة أو صحفيين كتبوا فى موضوعات وثيقة الصلة بالحياة اليومية من أمثال محمد سيد كيلانى وأحمد محفوظ وفتحى الحديدى وعبد المنعم شميس وعباس خضر، وكذلك كانت بعض كتابات صلاح عيسى وطارق البشري.
وخلال الستينيات نشطت دراسات التاريخ الاجتماعى فى الحقل الأكاديمى بفضل مساهمات مؤرخين كبار من أمثال الدكتور محمد أنيس والدكتور أحمد عزت عبدالكريم ثم جاءت مساهمات الدكاترة رءوف عباس وعبدالخالق لاشين ونيللى حنا، وعاصم الدسوقى وعبد العظيم رمضان، ويونان لبيب رزق، وعبد الوهاب بكر وعلى بركات وقد أسس هؤلاء تيارا فاعلا له إنجازات مهمة.
وضعت محاضرة حماد يدها على مجموعة من النقاط المهمة التى تستحق أن تشغل بال كل المعنيين بتاريخ هذا البلد، فقد لاحظت مثلا تراجع الدراسات حول مصر فى الأكاديميات الغربية، وقالت إن الدورات الأخيرة لمؤتمر (أميسا) المخصص لدراسات الشرق الأوسط أظهرت هذه الحقيقة بقوة، وبعد أن كانت الشكوى المعتادة هى أن مصر تحظى بنصيب الأسد من بين هذه الدراسات حدث هذا التراجع، وهو أمر ينبغى أن يكون موضوعًا لاهتمام المؤسسات الأكاديمية المصرية المعنية ببناء الشراكات مع مؤسسات البحث فى العالم.
انتقدت حماد إصرار مؤرخى الغرب على دراسة أشكال الحياة فى القاهرة وإهمال دراسة الأقاليم، فى حين تشهد المدرسة التاريخية المصرية نموا واضحا فى دراسة المحليات والمدن ذات التأثير الفاعل.
وقد كشفت المحاضرة أن الكثير من المؤرخين فى الغرب والذين تعلموا خلال السبعينيات والثمانينيات من نظرائهم فى مصر أفادوا البحث التاريخى لأن دراساتهم جاءت بعيدة إلى حد ما عن النظرة الاستشراقية التقليدية.
وأشارت حماد إلى التأثير الواسع الذى أحدثه اكتشاف أفكار الفيلسوف الفرنسى ميشيل فوكو، ودراسات تحليل الخطاب، وكتابات إدوارد سعيد، ومدرسة التابع حيث تم استعمال تلك الأفكار والنظريات فى كثير من الدراسات التى عانت رغم قوامها النظرى الجيد من ضعف فى المادة التاريخية أو من عدم القدرة على فهم السياقات المنتجة لها.
أرجعت المحاضرة ذلك إلى صعوبات كثيرة فى الحصول على المصادر الأرشيفية من دار الوثائق القومية حيث توجد الكثير من الإجراءات التى يستحيل التعامل معها، ومن ثم يضطر غالبية الباحثين داخل مصر وخارجها للتعامل مع مصادر بديلة وقد يلجأ بعضهم إلى التحايل وشراء ما هو متاح فى الأسواق أو ما هو مسرب من الأرشيفات التى تعرضت للنهب المنظم.
عادة ما يستغل الباحثون الأجانب قدراتهم المالية الأعلى لشراء هذه المواد، ويقعون فى محظور أخلاقى يتمثل فى الوصول لتلك المصادر بصورة غير شرعية تحرم الآخرين من حقهم فى الاطلاع عليها، كما تؤدى إلى تسرب المادة الأرشيفية إلى الخارج، كما أن بعضهم يستعمل جهود الباحثين المساعدين دون تقدير جهدهم بشكل مادى ومعنوى ملائم.
بخلاف ما أشارت إليه المحاضرتان نبه الدكتور نادى عبدالغفار وهو أيضا أستاذ فى إحدى الجامعات الأمريكية إلى أزمة أخرى تخص التكوين المنهجى لباحثينا الشباب والذين لا يحصلون على تأهيل نظرى يمكنهم من التعامل مع المادة التاريخية المتاحة.