ليس هناك شك فى أن انتفاضة الخامس والعشرين من يناير قد أحدثت تغييرات عميقة، وإن كانت غير مكتملة فى النظام السياسى المصرى، هناك عناصر قد تغيرت فى هذا النظام، ولكن هناك أيضا عناصر لم تتغير، كما أن هذه الحركة قد أدخلت البلاد، باعتراف رئيس الدولة فى مرحلة انتقالية، وهذه المرحلة بدورها تثير قضايا ينبغى حسمها حتى تصل مصر إلى نظام سياسى يتمتع بالشرعية والاستقرار، ويدفع تطورها الاقتصادى والاجتماعى والثقافى.
ما الذى تغير فى النظام السياسى فى مصر؟
ثلاثة عناصر أساسية تغيرت فى النظام السياسى فى مصر: الثقافة السياسية، والفاعلون السياسيون وعلاقات القوى ما بين الفاعلين السياسيين. فمن ناحية أولى لم تعد الثقافة السياسية فى مصر، كما كان المسلم به من قبل، هى ثقافة الخنوع والخضوع لسلطة الحكم أيا كانت، ومنافقة هذه السلطة، والتمرد عليها فقط من خلال النكتة والإشاعة، أو بمخالفتها من وراء ظهرها، وإنما صار الاحتجاج على هذه السلطة، ومقاومتها، والدعوة إلى تغييرها ملامح لثقافة سياسية جديدة أخذت فى التشكل منذ سنوات. والحقيقة أن بداية هذا التحول الكيفى فى الثقافة السياسية فى مصر يعود إلى سنوات مضت، وتحديدا مع ظهور حركة كفاية، والتى أعقبها ظهور حركات أخرى استعانت بتكنولوجيات الاتصال الاجتماعى ولقيت صدى واسعا من الشباب المتعلم والمتفتح، وأدى هذا التحول إلى انفجار الاحتجاجات الجماعية فى السنوات الأخيرة على نحو غير مسبوق فى التاريخ المصرى، ولعل أحداث إضراب المحلة الكبرى فى أبريل 2008 كانت واحدة من علاماته البارزة. وشارك فى هذه الاحتجاجات الجماعية معظم طبقات الشعب وطوائفه، من عمال وفلاحين، وصيادلة ومهندسين وموظفين حكوميين، أصحاء ومقعدين، مسلمين ومسيحيين،وهكذا أصبح التعطش للديمقراطية سمة رئيسية لهذه الثقافة. وكان ثانى هذه العناصر هو بروز الشباب كفاعل أساسى على مسرح السياسة المصرية، وهو فاعل لم يتصور أحد وجودا له، وركن كثيرون إلى أن الشباب فى مصر أصبح مهموما فى قسم منه بأحدث الأغنيات والأفلام وكيفية قضاء الإجازات، وفى قسم آخر بكيفية الحصول على وظيفة ،أى وظيفة، وكيف يمكن تأمين ضرورات الحياة. ولكن هذا الشباب وقد تسلح بقسط من التعليم، وبعضه بقسط وافر من التعليم يرفض أن تتدنى مكانة مصر على النحو الذى شهدته السنوات الأخيرة، فلا هى تحولت إلى نمر اقتصادى على ضفاف النيل كما ادعت أدوات الإعلام الرسمية، ولا هى سبقت أمما أخرى على طريق التحول الديمقراطى، ولا هى نجحت فى النهوض بنظم التعليم، ولا هى حققت إنجازا على طريق البحث العلمى، القاطرة الحقيقة للتنمية فى عصر المعرفة، ولا هى حافظت على قدر من النفوذ على الصعيد الإقليمى يمكنها من حماية مصالحها الأساسية فى المياه وفى الأمن. والعنصر الثالث فى هذا التحول هو تضاؤل النفوذ المباشر لرجال الأعمال فى دوائر صنع القرار بخروج الوزراء ذوى الخلفية فى العمل فى القطاع الخاص، ومعهم إحدى القيادات السياسية التى كانت تتحكم فى أمانة التنظيم فى الحزب الحاكم وفى الأغلبية البرلمانية لهذا الحزب فى مجلس الشعب، وإن كان فقدان الدور المباشر فى مجلس الوزراء لا يعنى بالضرورة اندثار النفوذ السياسى لرجال الأعمال، فما يملكونه من ثروة ومعرفة بالقانون ووجود فى المجالس النيابية والمحلية واتصالات استراتيجية بكبار المسئولين وبقيادات الإعلام يكفل لهم استمرار هذا النفوذ كما هو الحال فى المجتمعات الرأسمالية، ولكن أهمية ما جرى فى مصر من خروج رجال الأعمال وأمين التنظيم فى الحزب الحاكم هو ربما انتهاء الصورة الفجة من العلاقة بين الثروة والسلطة.
ما الذى لم يتغير؟
هذا التغيير فى بعض عناصر النظام السياسى لم ينعكس بعد على كل جوانب هذا النظام، مازالت بنية الدولة السلطوية قائمة لم تمس، من تداخل وثيق بين الحزب الحاكم ومؤسسات الدولة وخصوصا الإدارة المحلية وقيادات الإعلام والجامعات، وتحالف مع قسم مهم من كبار رجال الأعمال، ومن علاقات خفية مع أجهزة أمنية لا يعرف أحد من يسيطر عليها، كما لم تتغير بعد هذه العقلية الحاكمة التى لا تقبل أن تستجيب لإرادة الشعب، حتى ولو كان عنادها يعنى دمار الوطن، بل وربما لم تتوار بعد أحلام استمرار السلطة فى أيدى نفس العائلة الحاكمة.
قضايا الانتقال
بكل تأكيد هناك مكاسب تحققت، فى موقف الحياد الذى التزمت به القوات المسلحة، حتى وإن كان كثيرون يرون فى الحياد السلبى انحيازا لطرف دون آخر، وفى الفضيحة العلنية لكبار قيادات نظام الحكم، وفى تعرية الحزب الحاكم بوضوح صارخ عن أى شرعية بين المواطنين، ولكن ما جرى حتى الآن على طريق الإصلاح هو مجرد وعود، فكيف ينعكس التغيير الحادث فى الثقافة السياسية وفى علاقات القوى فى مصر داخل النظام السياسى وداخل أجهزة الحكم؟
لا شك أن القضية الأولى هى كيفية انتقال السلطة على نحو يضمن التحول نحو أوضاع أكثر ديمقراطية على النحو الذى عرفته الآن معظم شعوب الأرض. ولا يشعر كثيرون بالاطمئنان على مصير أى إصلاح سياسى طالما استمر من يقاومون الإصلاح على رأس الدولة، وهناك اجتهادات عديدة فى هذا المجال، أقلها ضررا بمكانة رئيس الدولة هى إصداره إعلانا دستوريا ينقل صلاحياته كاملة لنائب الرئيس بغية انتقال مصر إلى نظام سياسى جديد يختلف عما يقيمه الدستور الحالى بما ورد عليه من تعديلات فى سنة 2007.
والخطوة الثانية هى إلغاء حالة الطوارئ بما تتيحه من سلطات واسعة لأجهزة الأمن. صحيح أن جهاز الأمن قد انهار عمليا فى ظروف لا بد من الكشف عنها ومحاكمة المسئولين عنها ومعرفة كل الخيوط التى تنتهى بمن اتخذ قرار اختفائهم فى مساء الجمعة الثامن والعشرين من يناير، ومع ذلك تستمر حركة الاعتقالات للناشطين من الشباب ومن قيادات حركة حقوق الإنسان، ويوفر استمرار حالة الطوارئ غطاء لمن يقوم بهذه الأعمال.
والخطوة الثالثة هى إعادة النظر فى مجمل البنية الدستورية والتشريعية المرتبطة خصوصا بالحقوق المدنية والسياسية للمواطنين. وأيا كان القرار بخصوص مدى التغيير الدستورى، هل يكون تغييرا كليا بوضع دستور جديد أم يكون تعديلا يمس بعض مواده، فإن التغيير المرجو يجب أن يشمل أربع مواد رئيسية فى الدستور الحالى وهى المواد 76، 77، و88، و179. والحقيقة أن تغيير طريقة انتخاب رئيس الجمهورية (المادة 76)، أو مدد تولى الرئاسة (المادة 77) لا قيمة له ما لم يكن هناك ضمان بأن تكون هناك انتخابات ذات مصداقية، وإعادة المادة 88 فى صياغتها الأصلية التى تشير إلى الإشراف المباشر للقضاء على العملية الانتخابية هو شرط ضرورى للوصول إلى هذه الغاية، وإن كان لا بد من استكماله بتعديل قانون مباشرة الحقوق السياسية لتوفير ضمانات أخرى للعملية الانتخابية بإبعادها تماما عن سيطرة وزارة الداخلية واستنادها إلى نظام القائمة النسبية، كما أن التغيير يجب أن يلحق أيضا المادة 179، وهى لا شك مادة عجيبة فى تاريخ دساتير أمم الأرض شرقا وغربا، شمالا وجنوبا، فهى تمنح أجهزة الأمن حرية مطلقة فى حرمان المواطنين من حريتهم، وتطلق يدها فى تعذيبهم، وتتيح لها انتهاك حرمة اتصالاتهم البريدية والهاتفية، كما لابد وأن تشمل المراجعة قانون الأحزاب السياسية.
والخطوة الرابعة هى حل مجلسى الشعب والشورى والمجالس المحلية. والواقع أن قصة الانتخابات الأخيرة لكل هذه المجالس يمكن أن تكون موضوعا لمسرحية من نوع الميلودراما أو المضحكات المبكيات بسبب شذوذ الأساليب التى اتبعتها أجهزة وزارة الداخلية بالتنسيق مع أمين التنظيم السابق فى الحزب الحاكم، أو الذى كان يحكم، قبل ثورة اللوتس فى 25 يناير. والحل لمشكلة الفراغ الدستورى هو أن يجرى تعديل مواد الدستور أو صياغة دستور جديد من جانب لجنة الخبراء فى نفس الوقت الذى يجرى فيه الإعداد لانتخابات تشريعية جديدة، بحيث تتم دعوة المجلسين بعد انتخابهما فى وقت يتزامن مع الانتهاء من صياغة مشروع الدستور، والذى سيعرض عليهما فى هذه الحالة فى وقت يسبق انتخابات رئاسة الجمهورية.
ولكن من الذى يشرف على إدخال كل هذه الإصلاحات؟ لا يقدم على إصلاح أوضاعنا السياسية من ينتمون إلى ذات الحزب الذى أفسد هذه الحياة السياسية ولا يمكن ضمان خروج هذه الإصلاحات على النحو المرجو إذا ترك الأمر لترزية القوانين المعهودين. لذلك فإن إعادة تشكيل الحكومة من الشخصيات التى تتمتع بالخبرة والمصداقية والاستقلال عن الحزب الحاكم سابقا أمر ضرورى، كما أنه من الضرورى أيضا أن يكون هناك كيان مؤسسى فى صورة جمعية وطنية استشارية تجمع كل القوى السياسية الحزبية وغير الحزبية وقيادات الشباب الذى رفع رأس مصر عاليا بثورته السلمية وبعض منظمات المجتمع المدنى المعنية بقضايا حقوق الإنسان ليكون كل هؤلاء طرفا فاعلا فى صياغة مستقبل النظام السياسى فى مصر.
هذه خطوات ضرورية ليس فقط للخروج من الأزمة الراهنة، ولكنها مقدمة ضرورية لوضع مصر على طريق نهضة اقتصادية واجتماعية تترجم شعار انتفاضة الشباب: حرية، كرامة، عدالة اجتماعية.