نحو استراتيجية حقيقية للوعى المالى - مدحت نافع - بوابة الشروق
الإثنين 16 ديسمبر 2024 1:41 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

نحو استراتيجية حقيقية للوعى المالى

نشر فى : الإثنين 7 فبراير 2022 - 9:50 م | آخر تحديث : الإثنين 7 فبراير 2022 - 9:50 م
عندما أرادت كندا أن تقيم توازنا بين الأفراد والمؤسسات العاملة فى أسواق المال بأنواعها المختلفة، أنشأت عام 2001 هيئة حكومية للمستهلك المالى. منذ ذلك الحين تقوم الهيئة بأداء أدوار مختلفة، لكنها بالطبع ليست الأدوار المنوطة بالرقيب المالى التقليدى، أو بالجمعيات غير الحكومية التى تنشأ بشكل تطوعى بغرض حماية المستثمرين. الهيئة التى تسمى Financial Consumer Agency of Canada FCAC تضع هدفا استراتيجيا معلنا مضمونه هو «أن تصبح قائدا وطنيا لحماية المستهلك المالى». فى سبيل تحقيق ذلك الهدف على الهيئة أن تتأكد من أن كل الكيانات المالية العاملة فى السوق تحقق معايير ومتطلبات حماية المستهلك المالى، وكذلك عليها أن ترعى التعليم المالى، ورفع درجة التوعية لدى المستهلكين بحقوقهم والتزاماتهم المالية. هنا يختلف دور هيئة المستهلك المالى عن دور الرقيب على سوق رأس المال مثلا والذى تضطلع به فى كندا هيئة رقابية تسمى Canadian Securities Administrators (CSA) والتى يمكن أن يتم مقارنتها بالهيئة العامة للرقابة المالية فى مصر. فهيئة المستهلك المالى تنشئ توازنا عادلا بين ما هو قانونى ملزم من جهة، وبين ما هو فى مصلحة مستهلك المنتجات المالية وخاصة من الأفراد، حتى وإن تطلّب ذلك تعديل التشريعات أو منع إصدارها من الأساس.
عندما تطلق هيئة حماية المستهلك المالى استراتيجية وطنية لتوعية وتعليم المستثمرين، فإن ذلك يكون مفهوما ومقبولا بل ومحققا للغرض الذى أنشئت الهيئة من أجله، أما أن تترك مسئولية التعليم المالى والتوعية لمقدم الخدمة المالية مثل البنك أو البورصة (مهما كان هيكل ملكيتها) فإن أحدا لا يضمن أن تحقق حملات التوعية هدفا وطنيا، بل من المنطقى أن تستهدف الحملة زيادة إيرادات وحجم ودائع وعدد عمليات المؤسسة المعلِنة. كذلك إذا كانت حملة التوعية أو استراتيجية الوعى متروكة للرقيب المالى، فمن الذى يحمى المستثمر أو الشركات التى تخضع لرقابة ذلك الرقيب من امتداد نفوذه وتغوّل سلطته عليهم؟! وكيف يكون الغرض من التوعية منزّها عن تحقيق أهداف ذلك الرقيب، والتى إن لم تكن تعظيم الإيرادات أو تحقيق الفوائض فربما تكون مبنية على زيادة عدد المخالفات التى يتم ضبطها مثلا، أو زيادة عدد القضايا التى يتم إحالتها إلى المحكمة... وهى بكل تأكيد يجب أن تكون دالة فى حجم التعاملات وزيادة النشاط الاقتصادى على أية حال؟.
إذن فقد انتبه الشارع الكندى إلى ضرورة تعدد الجهات المنظمة لأسواق المال، حتى وإن اتبع فى سبيل ذلك نمط الرقيب الأوحد أو الرقيب المزدوج (كما هى الحال فى مصر من وجود رقيب مالى مصرفى متمثل فى البنك المركزى ورقيب مالى غير مصرفى متمثل فى الهيئة العامة للرقابة المالية). وهذا التعدد يضمن حدا أدنى من توازن المصالح وعدم تضاربها، وحماية المستهلك المالى الذى هو قوام السوق والمستهدف من تنظيمها بادئ الرأى. بل إن تنظيم السوق البريطانية الذى استلهمت منه تجربة توحيد الجهات الرقابية، شاهد تغييرا حاسما على أثر أزمة الرهن العقارى الشهيرة فى عام 2008 وتم فصل إدارة المخاطر فى هيئة مستقلة تحقيقا للكفاءة ومنعا لتضارب المصالح، وذلك على الرغم مما عرف عن الإنجليز من طبيعة محافظة عصية على التغيير!
• • •
لكل ما تقدم فقد أدهشنى خلال الأسبوعين الماضيين هذا السباق المحموم بين البورصة المصرية وبين الرقيب المالى على نشر التوعية والثقافة المالية بشتى السبل على الرغم من تراجع ملفت ومبرر فى أداء الأسواق! فالبورصة تطلق سلسلة من أعمال قصصية تستهدف الأطفال، وتطلق جرس جلسة التداول بحفل يحضره الوزراء والفنانون وأبناء العاملين، والهيئة تطلق مشروعا لاستراتيجية للتوعية المالية غير المصرفية وتعرضها على مجلس الوزراء. وعلى الرغم من انحيازى غير المشروط لكل جهود التوعية والتثقيف أيا كان مطلقها، فإننى أجدنى غير مطمئن لجدوى أى من تلك الجهود، ولى أسبابى فى ذلك.
البورصة المصرية مملوكة للدولة بالفعل، لكن القانون يسمح بتعدد البورصات وبخصخصة البورصة المصرية، وبإنشاء بورصات خاصة تستهدف الربح وتتمتع بكل الحقوق والمزايا التى تتمتع بها البورصة المصرية، تحقيقا لعدالة المنافسة وتعزيزا لحقوق المستهلك المالى. فى هذه الحالة فإن برامج التوعية التى تدعمها تلك البورصات سوف تكون أقرب إلى حملات للدعاية والتسويق لمنتجاتها، بغرض جذب مزيد من الشركات للقيد، والأعضاء من السماسرة وغيرهم، والمتعاملين الذين نطلق عليهم المستثمرين. وربما تحققت مع تلك الحملات أهداف تنموية على سبيل المسئولية المجتمعية لتلك البورصات، لكن الأصل سيكون ترويج الخدمات والمنتجات التى تقدمها. وعلى الرغم من غياب تلك المنافسة اليوم (وهذا يثير تساؤلات عدة حول عزوف المستثمرين عن إنشاء بورصات خاصة) فإن ذلك لا يغير من طبيعة الأمر شيئا. فالبورصة (أى بورصة) تسعى دائما إلى زيادة حجم تعاملاتها بغرض تحقيق فوائض مالية ناتجة عن الرسوم والمصاريف والعمولات، حتى ولو لم يكن ذلك محققا للمصلحة الأسمى للمتعاملين.
ولفهم ذلك دعنا نفكر قليلا ونتساءل هل سمعنا عن بورصة فى أى مكان فى العالم تعلن فى حملاتها التوعوية عن ضرورة تروّى المستثمر قبل دخول السوق فى توقيت معين، وأن شراء الأسهم والسندات المتداولة فى تلك البورصة ليس الوعاء الأفضل فى الوقت الحالى؟! بالتأكيد هذا لم ولن يحدث، وربما كان المستثمر الموصوف بنقص الوعى هو أرشد من الجميع عندما يرى أن الوضع فى البورصة غير مشجّع للشراء، أو أنه قد لاحظ الكثير من علامات الخروج من السوق والاتجاه إلى التعامل فى بورصات أخرى أو أسواق مختلفة مثل العقار والذهب. من ناحية أخرى هل يمكن للرقيب المالى أن يضع استراتيجية للتوعية يكون فى جانب كبير منها هو الخصم والحكم؟! هل تقتصر كل بدائل التصعيد ضد قرارات وإجراءات الهيئة على اللجوء للقضاء أو التظلم داخل الهيئة نفسها بما فى ذلك من تكاليف كبيرة وهدر فى الوقت وشك فى تحقيق الغاية من التظلمات؟! هل الرقيب الذى تحققت لديه فوائض كبيرة جدا استطاع أن يتبرع منها لجهة واحدة فقط بمليار جنيه خلال نحو عامين، يمكن أن يوجه المستهلك المالى إلى مصلحته، حتى وإن كانت مصادر تلك الفوائض هى فى الغالب غرامات ومصاريف دفعها ذلك المستهلك من جيبه، وأثّرت على ملاءته وعلى قراراته المالية بشكل عام؟!.
• • •
لذلك فإن إنشاء هيئة حكومية لحماية المستهلك المالى فى مصر باتت أمرا ضروريا لتحقيق التوازن المفقود بين المؤسسات الرقابية والعاملة فى السوق وبين ذلك المستهلك. الكثير من الحقوق الضائعة للمستهلك المالى يمكن أن تعيدها له تلك الهيئة، التى تملك مراجعة التشريعات والقواعد المنظمة لعمل الأسواق للتأكد من تحقيقها للمصلحة العامة، وليس لخطط وأهداف أى رقيب مهما كانت نزاهته. هيئة المستهلك المالى سوف تكون بمثابة إشارة إيجابية للمستثمر الوطنى والأجنبى للعودة إلى سوق المال المصرية، وهى إشارة قبل ذلك للشركات لقيد أوراقها المالية فى السوق الثانوية المصرية، دون خوف من أن تعبث أية جهة بحقوق تلك الشركات وتستنفد طاقتها وملاءتها فى رسوم ومتطلبات تضيف إلى أعبائها أعباء تنوء بحملها الجبال. مع كامل التقدير لنظام التقاضى فى مصر فإنه لا ينبغى أن يكون الملجأ الأول لحسم كل خلاف محتمل نشوبه بين المستهلك المالى وجهات السوق، بل هو الملجأ الأخير الذى يحتكم إليه بعد أن تعجز آليات السوق على رد الحقوق إلى أصحابها.
أناشد رئاسة الوزراء (المسئولة عن حقيبة الاستثمار فى غياب وزير مختص) باعتماد عدد الدعاوى الاقتصادية المتعلقة بسوق المال كمؤشر من مؤشرات أداء السوق، وقدرته على حل النزاعات بسهولة. كما أطالب بربط ذلك المؤشر بحجم الاستثمارات التى دخلت السوق خلال الأعوام العشرة الأخيرة، وبنسبة رأس المال السوقى فى البورصة إلى الناتج المحلى الإجمالى، وبالنظر إلى مؤشرات سوقى التأمين والتمويل العقارى نظرة مختصة، تتقن كشف مؤشرات التراجع ولو سيقت على نحو يوحى بالإنجاز. وفى الختام أطالب بسرعة إعادة النظر فى هيكل سوق المنتجات المالية غير المصرفية، تلك السوق التى كان من الممكن أن تكون معبرا لنجاح خطة الإصلاح المالى والنقدى منذ نوفمبر 2016 على نحو لا يلجئنا إلى مزيد من تخفيض قيمة الجنيه أمام الدولار مجددا وقبل مرور خمس سنوات على التعويم السابق.
مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات