احتفل أقرب الأهل، جغرافيا، ببلوغى العام الرابع والثمانين. حرمنا زائر بظله الثقيل وغموضه المخرب، وحرم أكثرية الأهل وأقرب الأصدقاء من إقامة حفلاتهم المعتادة كل عام بهذه المناسبة. حرمنى أنا أيضا من متعة صحبتهم ومن فرصة جديدة أتأمل فيها الآفاق التى تمددت نحوها العائلة عددا وعدة، ومن بهجة الالتقاء بأصدقاء لم يتخلوا أو يبتعدوا وإن جار الزمن على البعض منا، فكان فى أحيان قاسيا علينا وفى أحيان ظالما وكنا بالود فى كل الأحيان قانعين. تحصنت بالحب فكان خير مناعة لى فى مواجهة موجات الشر وسوء الفهم والغضب من أى مصدر انطلقت ومن أى جهة أتت.
***
ها أنذا أقترب من منتصف الثمانينيات من العمر وما زلت مصرا على أننى أعيش أحلى أيام العمر. عشت أياما كثيرة حلوة ولكنى أعيش أحلاها على الإطلاق. لامونى على قرارات كثيرة اتخذتها خلال مسيرتى مراهقا كنت فى مرحلة منها وفى مرحلة أخرى شابا فى مقتبل حياته الوظيفية وعلى أبواب خيارات مصيرية. قرارات أخرى اتخذتها وفى ضميرى وفوق كاهلى عائلة تزداد مطالبها، تحملنا معا وتجاوزنا مراحل صعبة ولكن مجزية فى عطاء الحب والأحلام والفضول والطموح. تذكرنى صور فى ألبوم ذكرياتى بمرحلة لم يغب فيها العبوس عن وجهى. مرحلة لم تطل انتهت بمواجهة صريحة مع النفس فانتصرت الرغبة فى الحياة. منذ ذلك اليوم أبتسم كلما تذكرت لحظات اتخاذ بعض القرارات الصعبة أو المصيرية. واحدة من تلك الابتسامات تزين وجهى الآن وأنا أقترب من كتابة عناوين، مجرد عناوين، لبعض تلك القرارات ومآلاتها.
***
فى الخامسة عشرة من عمرى اخترت السياسة الخارجية مهنة أشتغلها أو أشتغل عليها. تفرع عن هذا القرار قرارات فرعية عديدة بآثار بعضها ما يزال فاعلا. لم أترك فريقا مغامرا أو ناشطا فى ميدان الرحلات، وبخاصة الصعبة، لم أنضم إليه. مع هؤلاء الفرقاء من المراهقين المغامرين قضيت أياما وليالٍ مثيرة وكاشفة فى أعالى نهر النيل وتحديدا بين قبائل جبال نوبا. كنت شاهدا، واختارونى محكما، فى حفل تخريج دفعة من شباب وصلوا إلى سن البلوغ. كان أول درس فى مناهج وأساليب تجديد الأمم. رأيت وعشت يوما مع أمة تتجدد فى مثل هذا اليوم من كل عام، يوم بلوغ أطفالها سن المراهقة، حينها يصبح الجيل الجديد جاهزا للتدريب على الحرب والحب وصيد الضرع وصد الأعداء وعلى كل بالغ أن يثبت أهليته فيها جميعا خلال يوم بليلة. وفى رحلتنا فى المملكة الليبية السنوسية وفى جلسة خاصة اطلعت مع أستاذ مرافق على بعض فنون الحكم فى مجتمع قبلى آخر. وفى الرحلة الاستكشافية الثالثة قدت فى مدينة غزة فريقا من أربعة مراهقين دفعهم الفضول للاقتراب من الحدود على متن دراجات هوائية ومشاهدة إسرائيليين من قرب. اخترقنا الحدود ببراءة المراهقين وشاهدنا وقضينا عدة ليالٍ فى سجون بير سبع الإسرائيلية. عدت لأجد فى استقبالى عند الحدود عقيد فى الزى العسكرى عابس الوجه وأظن أنه نطق بكلمات ثلاث أو أربع، قال ما معناه، كلفتونا كتير. لم أفهم القصد ولم أستفسر حتى وأنا أعمل عضوا فى مكتبه بالجامعة العربية لسنوات غير قليلة وصديقا بعد أن ترك كلانا العمل وانتبهنا إلى الكتابة. فى غزة قضيت الليلة فى سجن وفى الصباح انعقدت محكمة عسكرية وصدر الحكم بإدانتى وعقوبة السجن مع الأشغال الشاقة لمدة خمسة عشر عاما وترحيلى من غزة مكبلا لتسليمى إلى الجهة العسكرية المسئولة فى محطة مصر للقطارات. هناك وبعد الانتهاء من الإجراءات الورقية أصر الضباط على اصطحابى بسيارة عسكرية إلى بيت أهلى. استقبلتنى أمى فى بيتنا بشارع سامى وسط تهليل جموع الصحفيين وزغاريد نساء الحى. استقبلتنى بدموع فرحتين، فرحة العودة سالما مقترنة بفرحة نشر خبر عودة ابنها من إسرائيل بعرض الصفحة الأولى لجريدة الأهرام.
**
كم تمنيت يوم عرسى أن تعيش أمى وأرى فرحتها. سرقها منا القدر. تآمر عليها مع مرض شرير ليختصر من عمرها سنوات كثيرة. أرى اليوم صور العرس بعينى غريب عن المشهد. زرت الهند بعد نحو عشرين عاما لم أتعرف على شىء أو على أحد، حتى الموقع الذى شهد الاحتفال أزالوه. رجعت إلى ألبوم الصور. غلام فارع ينقصه فى الصور جناحان ليطير بهما كما كان يطير الشاطر حسن فى حواديت أم فاطمة. أم فاطمة كانت تأتى مرة فى الشهر إلى بيتنا أو إلى بيت أختى لتتحصل على جنيهات معدودة تسد بها رمق حياتها فى قريتها وتدفع منها سجاير ابنها. تقضى فى كل زيارة ليلة أو ليلتين. بعد العشاء نلتف حولها جالسين القرفصاء على الأرض مثلما كانت تجلس. جرت عادتها أن تبدأ بحكاية عن نفسها. من حكاياتها التلقائية والمحببة إلى نفسى. «أنا من جمالى كنت ماشية على النيل والهوا طير هدومى حتى كالسونى وكان له كورنيش طويل طار فى الهوا. اتعرت رجلى. شافها الملك وكان بيتمشى زيى. ومرة واحدة اتدور وقال للراجل اللى معاه بكرة تقوللهم يسموا الشارع ده شارع الكورنيش. ومن يوميها بقى اسمه كورنيش النيل». تنتهى حكايتها بكل تورياتها وألغازها ونوادر حكمتها وتبدأ الحدوتة ولإرضائى كانت كلها حواديت عن مغامرات الشاطر حسن مع بنت السلطان التى اختطفتها «أمنا الغولة». أظن، وبعض أو كل الظن عندى خيال، أن الشاطر حسن كان فى نيودلهى ليلة عرسى ومشى معنا، أنا والعروس، خطوات ليست قليلة حتى توقفنا لنتلقى تهانى السيدة انديرا غاندى ومشاهير الطبقة السياسية فى الهند وممثلات وممثلى بوليوود والسفراء المعتمدين فى نيودلهى وشباب السلك الدبلوماسى بكامل عددهم. فى اليوم التالى صدرت الصحف الهندية تزين بعض صفحاتها صور العرس. لا أخفيكم أننى وبينما كنت أراجع ألبوم ذكرياتى لمحت فى إحدى الصور صورة للشاطر حسن متخفيا فى الملابس الرسمية وممسكا بيد العروس.
***
فى الألبوم صور عديدة لبلاد حططت بها فى مرحلة أو أخرى وصور لملوك ورؤساء جمهورية وأمراء قابلتهم أو اختلطت ببعضهم، واعترف أن أحدهم حظى بالنصيب الأكبر من فضولى. لا تأثيرا كبيرا من أى نوع خلفته فرص الالتقاء بهؤلاء خلال مرحلتى الدبلوماسية. المتعة كل المتعة كانت فى فرص الالتقاء بهم والاستماع إليهم خلال ممارستى العمل الصحفى. قابلت العدد الأوفر منهم فى آسيا والعالم العربى وإفريقيا. سمعت قصصا شتى. رأيت فى كل موقع وساحة وقصر «الشاطر حسن» ليس كما ورد ورسمته لى فى مخيلتى أكثر حواديت أم فاطمة. سجلت فى كراستى الصغيرة قصص صعود. فى رواياتهم كان نموذج الشاطر حسن الذى اختاروه مختلفا عن نموذج الشاطر حسن فى حواديت أم فاطمة. قصص فى رواياتهم تحكى عن شاطر باحث عن السلطة والقوة وعن السحرة وصانعى المعجزات القادرين على حمله فوق مكنسة كمكنسة الساحرة فى رواية الملك أوز أو فى طائرة مقاتلة أو قاذفة صواريخ والطيران به وتثبيته على عرش فى بلد من البلاد، أى بلد. لم أقابل واحدا فيهم اعترف بأن حافزه فى الحياة كان الحب والبحث عنه فى صدور الناس والتخصص فى درس أعماقه وفصائله. لم أدع من واحد فيهم لأقابل العروس التى وقع فى حبها وخاض من أجل الحصول عليها والمحافظة عليها معارك مع مستقبل مكتظ بالوحوش ومصير غامض.
***
ما أروع مواقع للحب فى ألبوم الذكريات اشتهرت بعطائها الفياض وأحضانها الرحبة المتشبثة. صورة بالأبيض والأسود لمياه النيل «المتسحبة» بين جنادل النهر فى أسوان. صورة الحب الذى أقاموا له معبدا فى كاجوراو بجنوب الهند وصورة الحب الذى عينوا له آلهة من صنع خيالهم ونصبوها لتقف فى صف آلهة القوة والبطش فى أساطير قدماء حضارة الغرب. صورة الحب المسجل على أوانى زهور الحضارة الصينية منذ القدم، الشاطر حسن يقف فوق حصانه يسترق النظر من فوق جدار قصر تسكنه بنت الامبراطور. صور الحب المنقوشة على جدران معابد الفراعنة وقصورهم. صورة الحب كما جاء فى الأغنية التى حفرت لنفسها مقرا دائما فى جدول ذكرياتى. كانت المدخل إلى سلسلة دروس تعلم اللغة الإسبانية كما قررتها المعلمة التى صعدت بى بسرعة وصفتها هى نفسها بالسرعة غير المألوفة نحو قمة التل المطل على العاصمة سنتياجو.
***
أينما ذهبت حرصت ألا أرحل إلا ومعى فى خيالى إن لم يكن فى حقيبة سفرى صور كى لا أنسى. وللحق ولا فخر مبالغا فيه، لم أنس. عشت أجمع حواديت الشاطر حسن الناطقة بلهجات أهلها. عدت بحدوتة من تراث أهل جزيرة مورونى وأخرى نقلها مواطن من كينيا وثالثة ورابعة وخامسة من ريف السنغال ومناطق أمازيج الجزائر ومن تراث الأكراد، كلها لا تنسى. وحواديت من أزقة البوكا فى بيونس ايرس وشواطئ الطبقة الراقية قرب ماردى لبلاتا ومونتيفيديو وفالبرايزو وريفييرا الزهور انطلاقا من جنوة أو وصولا إليها.
***
الذين قالوا، مراحل ومرت، أخطأوا أو لم يفهموا. لم يفهموا أنه فى هذا الوقت من كل عام تجتمع صور الفرص التى عشتها تدعونى للاطلاع والاستمتاع. ترسم الصور على وجهى ابتسامة أقوم بتوزيعها أو نسخا منها على كل أهلى وجيرانى ومن ساقته أشجانه وعواطفه من أصدقائى وصديقاتى. أحب هذه المرحلة من حياتى. لم يبلغنى فى أى من حواديت أم فاطمة أو غيرها أن الشاطر حسن عاش حتى بلغها. أقول لكل الأطفال أن الشاطر حسن عاش حتى بلغ الرابعة والثمانين وقد يعود، وهو بالتأكيد سيحاول ليعود، إليهم فى حلقة جديدة من حواديت أم فاطمة فى العام القادم.