تفجير أجهزة البيجر، الضربات التى قتلت زعيم حزب الله حسن نصر الله، الغارات على جنوب لبنان، رد إيران الانتقامى بالصواريخ الباليستية، كل ذلك، فى نظر كثر، يجعل الشرق الأوسط الكبير ينجرف فى دوامة من التصعيد. وكما أعلن مراسل البيت الأبيض لصحيفة نيويورك تايمز، ديفيد سانجر: «لقد أصبحت الحرب الأوسع التى طالما خشيناها هنا الآن».
بالمعنى الضيق، لا يمكن إنكار صحة العبارة السابقة، لكن التركيز على المعارك الأخيرة يعيق رؤية حقيقة مفادها أن الحرب الواسعة أو الشاملة كانت قائمة بالفعل منذ عقود من الزمن فى الشرق الأوسط، والصراع بالمنطقة أشبه بالوضع السائد/ العام وليس طقسا مرحليا. حتى إن من يعيشون فى الشرق الأوسط يدركون هذه الحقيقة وقد تكيفوا معها فى نواح كثيرة.
الشعب الإيرانى كذلك لديه نظرة بعيدة المدى للحرب. فهم يعتمدون استراتيجية فابيانية كلاسيكية (استنزاف الخصم عن طريق المماطلة والتهرب بدلاً من المواجهة، على غرار أسلوب الجنرال الرومانى القديم فابيوس). طهران على استعداد تام لإلقاء مئات الطائرات بدون طيار والصواريخ الباليستية فى الهواء، مدركة أن مثل هذه الضربات لن يكون لها تأثير عسكرى يذكر، وتدعو الله ألا تصيب شيئا أو شخصا عن طريق الخطأ مما يستفز انتقامًا إسرائيليًا أكبر.
لهذا السبب، تكافح إيران للسيطرة على وكلائها. ويشكل الحوثيون فى اليمن المثال الأبرز لهذا التحدى، وإن كان هجوم حماس فى السابع من أكتوبر هو الأكثر دراماتيكية، مع إبقاء الشيطان الأكبر، أمريكا، على مسافة منها. باختصار، الجمهورية الإسلامية لا تملك الكثير من القدرة الفائضة لإنفاقها على حرب مباشرة مع إسرائيل.
على نحو مماثل، تحافظ بعض الدول العربية على هدوئها، وتتجنب المشاركة بشكل أعمق. بعض هذه الدول لا ينوى السماح لـ«القضية الفلسطينية» بالوقوف فى طريق خططها لتحديث بلدانها. قطر مثلا لديها خطط تنمية وتفضل استضافة كأس العالم بدلا من مساندة حماس، حال اضطرت إلى الاختيار.
على نفس المنوال، قدرات روسيا والصين على التأثير على مسار الصراع فى الشرق الأوسط محدودة. فقد حقق فلاديمير بوتين ربحا سريعا من استثماره ثلاثين طائرة وبضعة آلاف من الجنود فى سوريا، ولكنه يستنزف سلطته إلى أقصى حد فى أوكرانيا ويأمل أن يتمكن دونالد ترامب حال فوزه بالرئاسة من إنقاذه. أما الصين، مثلها كمثل دول شرق آسيا الأخرى، تحتاج إلى الحفاظ على تدفق النفط الخليجى ورخص أسعاره للحفاظ على استمرار اقتصادها، ولا يستطيع الرئيس الصينى، شى جين بينج، إلا أن يخشى اندلاع حرب أوسع نطاقا فى الشرق الأوسط، لكنه يستطيع أن يتعايش مع الوضع الحالى.
• • •
فى أمريكا وأوروبا سنجد أن مخاوف الحرب الأوسع هى الأعظم. فى السابق، كان هناك وهم بأن الشرق الأوسط «أكثر هدوءا مما كان عليه لعقود من الزمن»، كما كتب مستشار الأمن القومى جيك سوليفان بشكل غير موفق قبل السابع من أكتوبر. كان هناك وهم آخر مدفوعا بأن الشرق الأوسط لم يعد مهما جيوسياسيا. ووفقا لمرشح ترامب لمنصب نائب الرئيس، جيه دى فانس، ومشروع 2025 التابع لمؤسسة هيريتيج، يجب على الولايات المتحدة «إعطاء الأولوية» للرد على الصين، وترك الشرق الأوسط وأوروبا ليدافعوا عن أنفسهم.
فى الواقع، من الصعب الهروب من حقيقة أن مخاوف الولايات المتحدة من التصعيد تنبع من إدراك مدى عجزها عن تحمل حرب شاملة. بعبارة أوضح، أغلب أسلحة «المجمع الصناعى العسكرى» الأمريكى، من المركبات القتالية البرية إلى السفن إلى الطائرات، من عصر رونالد ريجان. ولم تتمكن واشنطن، على سبيل المثال، من تزويد الجيش الأوكرانى بأعداد كافية من أبسط قذائف المدفعية. ولا يزال حجم القوات المسلحة الأمريكية عند مستواه المنخفض بعد الحرب الباردة. كما صدرت أوامر متكررة إلى القوات البحرية الأمريكية التى أُرسلت إلى الشرق الأوسط على مدى العام الماضى بتمديد انتشارها؛ وتم تعليق حاملة الطائرات يو إس إس أبراهام لينكولن، وأبحرت حاملة طائرات ثانية، يو إس إس هارى إس ترومان، عبر المحيط الأطلسى مع سفنها المرافقة فى طريقها إلى شرق البحر الأبيض المتوسط، تنضم أيضا أربع مدمرات صواريخ موجهة إلى تلك التى تقوم بالفعل بدوريات فى البحر الأحمر. مجمل القول، لا تستطيع البحرية الأمريكية التى تتألف من إحدى عشرة حاملة طائرات أن تستمر فى هذا الوضع.
• • •
إن أى دراسة سريعة للتاريخ البشرى تظهر أن السلام يشكل استثناء وليس القاعدة. والأمر الأكثر شيوعا هو توقف الأعمال العدائية حتى يستعد الخصوم للجولة التالية. والواقع أن التنبؤ بالأحداث فى الشرق الأوسط ليس بالأمر السهل، ولكن ربما يكون من المتوقع أن نشهد استراحة من الأحداث وليس إنهاء التدهور. محور المقاومة يحتاج إلى فترة من الهدوء. ففى الأشهر الأخيرة، وجهت إسرائيل سلسلة من الضربات القوية إلى إيران ووكلائها على جبهات متعددة. وقُتل كبار القادة الإيرانيين ومن حزب الله وحماس؛ ودُمرت البنية الأساسية لكتائب حماس؛ كما تم اعتراض معظم الصواريخ والطائرات بدون طيار التى أطلقت على إسرائيل أو سُمِحَ لها بالسقوط دون أن تلحق بها أى أذى. وهناك سبب خاص للشك فيما إذا كان التوغل الإسرائيلى فى جنوب لبنان من شأنه أن يؤدى إلى اتساع الصراع.
• • •
يبدو أن إسرائيل استعادت بعضا من توازنها السياسى على الأقل وثقتها الاستراتيجية بنفسها. صحيح أن بنيامين نتنياهو يظل رئيس وزراء غير محبوب، لكن الدولة الأمنية الإسرائيلية أعادت ترسيخ قدر كبير من سمعتها الرادعة، والأهم من ذلك أنها استعادت على الأرجح ثقة العديد من الشعب الإسرائيلى التى فقدتها فى السابع من أكتوبر الماضى.
على النقيض من ذلك، لا تزال الولايات المتحدة تبدو مشوشة. وما قد تفعله الإدارة المقبلة بشأن تضييق نطاق حرب الشرق الأوسط يظل محل تساؤل. فقد ترسخت نزعة الانعزالية التى تتبنى مبدأ أمريكا أولا فى الحزب الجمهورى، فى حين يثق الحزب الديمقراطى فى الدبلوماسية والعقوبات الاقتصادية وأحلام «القوة الناعمة». ويعمل كلا الحزبين على افتراض أن «كل حرب لابد أن تنتهى»، وكلما كان ذلك أسرع كان ذلك أفضل. ولا يبدو أى منهما شجاعا بما يكفى لاقتراح نوع الاستثمارات فى القوة العسكرية التى تتطلبها الحروب الطويلة مع ما قد يصاحب ذلك من زيادات ضريبية أو تخفيضات فى المزايا الاجتماعية. ومثل وزير الدفاع السابق فى عهد دونالد ترامب، جيمس ماتيس، وعدت نائبة الرئيس الحالى، هاريس، بالحفاظ على «قوة الفتك» التى يتسم بها الجيش الأمريكى. صحيح قوة الفتك أمر جيد، ولكن جودة هذا الفتك لها أهمية خاصة، وتحديدا فى الحروب الواسعة النطاق.
جيزيل دونيلى
American Enterprise Institute
ترجمة: ياسمين عبداللطيف