لدى رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، هوس مَرَضى بضرب المنشآت النووية لإيران والقضاء على برنامجها النووى؛ وكثيرا ما استفزها عبْر اغتيال علماء إيرانيين فى المجال النووى. قائمة الاغتيالات، فى هذا المجال، طويلة: اغتيال أستاذ مادة فيزياء الجسيمات بجامعة طهران، مسعود على محمدى، فى عام 2010م، ومؤسس الجمعية النووية الإيرانية، مجيد شهريارى فى 2010م، وعالم الفيزياء النووية، داريوش رضائى نجادى فى 2011م، ومصطفى روشان العالم الذى يعمل فى موقع ناتنز النووى فى 2012م، والعالم النووى، محسن فخرى زادة فى 2020م، فضلا عن اغتيال عدد كبير من كبار قادة الحرس الثورى الإيرانى، خلال فترة حكمه، وتجنيد عملاء لسرقة الوثائق الخاصة بالبرنامج النووى الإيرانى.
لم يكتف نتنياهو بذلك، وإنما حرَّض الإدارات الأمريكية المتعاقبة على إلغاء الاتفاق النووى المبرم بين إيران والدول الخمس الكبرى ذات العضوية الدائمة بمجلس الأمن الدولى إضافة إلى ألمانيا فى لوزان عام 2015م (ما سُمى باتفاق 5+1، اتفاق يضمن سلمية البرنامج النووى الإيرانى) وهو ما استجاب له الرئيس الأمريكى السابق، دونالد ترامب، الذى أعلن خروج بلاده من الاتفاق فى عام 2018م. وحرَّضها على التعاون معه فى ضرب برنامج إيران النووى. أيضا يمكن القول إن حُلم نتنياهو ومشروع حياته أن يقضى على برنامج إيران النووى، بحيث لا تكون هناك فى المنطقة قوة نووية أخرى، غير إسرائيل، التى تمتلك بحسب تقديرات عالمية متطابقة أكثر من مائتى رأس نووى.
كان أعنف وآخر هذه الاستفزازات، اغتيال رئيس المكتب السياسى لحركة «حماس»، إسماعيل هنية، فى قلب طهران فى 31 يوليو 2024م، واغتيال الأمين العام لـ«حزب الله»، حسن نصر الله، أهم حلفاء إيران فى المنطقة، فى 27 سبتمبر 2024م، مع عدد من قادة الحزب، إضافة إلى قائد كبير فى الحرس الثورى الإيرانى تواجد معهم.
• • •
ردا على هذه الاستفزازات، المتعاقبة، وجهت إيران ضربة بالصواريخ الباليستية ــ 180 صاروخا بحسب تقديرات إسرائيلية ــ إلى منشآت عسكرية إسرائيلية فى الأول من أكتوبر 2024م. توعد جميع المسئولين الإسرائيليين ــ سياسيين وعسكريين ــ إيران برد ساحق على هذا الهجوم الصاروخى. لا أحد يعرف ماهية وشكل الرد الإسرائيلى، المتوقع، لكن ثمة إجماعا إسرائيليا على أن الهجوم الإيرانى يمثل (فرصة تاريخية) لضرب المنشآت النووية الإيرانية، خاصة، وعلى ضرورة أن يكون الرد الإسرائيلى ساحقا ماحقا، وعلى ضرورة تركيع إيران، وتغيير نظام الحكم بها، بل وعلى ضرورة إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط بحيث تدين بلاده بالولاء والطاعة لإسرائيل فقط ومن ورائها أمريكا.
يرى، يارون فريدمان «أن لدى إسرائيل، الآن، فرصة تاريخية، ربما لن تتكرر، لضرب المفاعلات النووية الإيرانية، سنندم لأجيال إذا أضعناها، وأن هناك مشروعية أمريكية، وأن مصدر التهديد من جانب «حماس» و«حزب الله» قد زال، وأن سلاح الجو الإسرائيلى لديه تفوق واضح، ولم يعد هناك نقص فى القنابل المخترقة للدُشم». ويطالب رامى سيمانى، بألَّا يكون الرد الإسرائيلى محسوبا، كما فى الرد على الهجوم الصاروخى الإيرانى السابق فى 14 أبريل 2024م، وبعدم الإصغاء إلى الأصوات التى تنادى بالرد على مراحل، وإنما دفعة واحدة على كل الأهداف التى استعد لها الجيش الإسرائيلى لنحو عشرين عاما، وتدمير المنشآت النفطية، ومراكز إنتاج الكهرباء، والماء، والصناعة، وشل منظومة السيطرة والرقابة الحكومية من خلال هجمات سايبر استراتيجية؛ بل إنه يدعو إلى محو إيران وتغيير نظام الملالى.
يرى عاميت إتيئيلى، أن إيران منحت إسرائيل (هدية كبيرة)، ومبررا قوميا، داخليا، ومشروعية دولية لإزالة (التهديد) الذى تمثله إيران مرة واحدة وإلى الأبد، ومنعها من القدرة على الاستمرار فى تطوير قدراتها النووية، والإضرار بشدة بالبنى التحتية، الاقتصادية والمدنية، بها، وإعادتها عشرات السنوات إلى الوراء، مشيرا إلى أن القيادة التى لا تفعل ذلك قيادة متقاعسة، ومجرمة، وتعرض نفسها وأنفسنا للخطر، وتخالف الفريضة الدينية الأساسية، القائلة: «لا تقف على دم قريبك» (سفر اللاويين، 19، 16)، وهى فريضة توجب على اليهودى أن يهب لنجدة أخيه، فى العقيدة، عندما يتعرض للخطر، وصيغت كقانون ضمن سفر القوانين فى إسرائيل عام 1998م.
• • •
نادرا ما نجد استثناءات لهذا الهوس بالاستخدام المفرط للقوة، وبالغرور بالقدرة على التلاعب بمصير المنطقة، وكأن دولها أصفار منعدمة القيمة. من هذه الاستثناءات، التى تنأى عن هذا الصلف، ميخائيل ميلشتاين، رئيس منتدى الدراسات الفلسطينية بمركز ديان بجامعة تل أبيب، الذى يرى أن «الشرق الأوسط الجديد لا ينتظرنا عبْر الزاوية كما يُعلن كثيرون فى إسرائيل (فى تلميح إلى تصريحات بنيامين نتنياهو أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة وبعدها)، وأن إمكانية قلب الأمور رأسا على عقب، من الناحية الاستراتيجية، وتأسيس تحالف إقليمى إسرائيلى ــ عربى برعاية أمريكية ما يزال فى طور حلم بعيد التحقق».
• • •
من المؤكد أن الضربة الإسرائيلية، المتوقعة، ستتم بتنسيق وتعاون كاملين مع الولايات المتحدة الأمريكية، التى تشاركت مع إسرائيل مراحل حرب الإبادة، الممنهجة، ضد غزة خطوة بخطوة، ومراحل تصفية قدرات «حزب الله» فى لبنان، حاليا، لحظة بلحظة، ووجهت، بالتعاون مع بريطانيا ودول أخرى، ضربات عنيفة ضد الحوثيين فى اليمن، وحيَّدت، إلى حد ما، جماعة أنصار الله الشيعية، فى العراق، وموَّلت حروب إسرائيل، وأمدتها بالذخيرة، ووفرت لها الحماية الدبلومسية فى الأروقة الدولية. بل إن جاكى حوجى، محلل الشئون العربية فى إذاعة الجيش الإسرائيلى، يرى أن الحرب فى المنطقة «حرب أمريكية، الجيش الإسرائيلى فيها مجرد مقاول»، وهو ما يفسر الخطاب الأمريكى، الحاد، ضد الهجوم الإيرانى على إسرائيل، بحسب، يوسى يهوشواع، محلل الشئون العسكرية بجريدة، «يديعوت أحرونوت»، الذى قال إن «جهد الرد على الهجوم الإيرانى سيكون مشتركا بين الدولتين، ولن تكون إسرائيل وحدها إذا هاجمت إيران»؛ فيما دعا، مامى بئير، إلى أن «تقود الولايات المتحدة الأمريكية، جنبا إلى جنب مع إسرائيل، إجراء عسكريا قويا، من أجل تدمير البرنامج النووى الإيرانى، وتصفية الزعامة الإيرانية».
• • •
ثمة قناعة بأن نتنياهو «نجح»، أخيرا، فى جر الولايات المتحدة الأمريكية، حتى فى مثل هذا الظرف الداخلى الحساس، انتخابات الرئاسة الأمريكية فى شهر نوفمبر القادم، إلى مستنقع حرب إقليمية فى منطقة الشرق الأوسط وإلى مواجهة مباشرة مع إيران وحلفائها فى المنطقة وخارجها؛ وهى حرب سيكون لها تبعات وخيمة على الاقتصاد العالمى، وقد تثير فوضى فى المنطقة.
لكن السؤال، الذى يطرح نفسه هو، هل تستطيع إسرائيل، بالتعاون مع أمريكا، تحقيق ما تصبو إليه الأولى؟ أى تدمير المنشآت النووية الإيرانية والقضاء على البرناج النووى الإيرانى؟ الإجابة بالنفي. فالعملية معقدة وصعبة، وثمة مسائل فنية كثيرة منها، على سبيل المثال، لا الحصر، أن عدد المواقع النووية التى أبلغت بها إيران الوكالة الدولية للطاقة الذرية يبلغ نحو 21 موقعا، وهو ما يحتاج إلى عشرات، إن لم يكن مئات الطائرات، التى ستحتاج بدورها، إلى إعادة تزود بالوقود فى الجو بسبب بعد المسافة، فضلا عن أن إيران قد ترد على الهجوم بهجوم، أكثر ضراوة من الهجوم السابق، بالصواريخ الباليستية، وقد تهاجم المنشآت النفطية فى الدول الخليجية، وأذربيجان حليفة إسرائيل، ما قد يؤدى إلى أزمة عالمية فى الطاقة.
قد يستطيع سلاح الجو الإسرائيلي، بحسب، ناداف إيال، فى "يديعوت أحرونوت"، تدمير 40% من المنشآت النووية الإيرانية، وهو أمر غير كاف، فى نظره، وقد يمنح إيران مشروعية دولية للتقدم بخطى حثيثة نحو حيازة القنبلة النووية، ويُدخل المنطقة، برمتها، فى أتون حرب شاملة، قد تستغرق سنوات.
وإذا هاجمت إسرائيل المنشآت النفطية فى إيران، كما تتحدث بعض المصادر، فمن المرجح، بحسب محلل الشئون العسكرية، رون بن يشاى، أن «يحقق الهجوم نتيجتين تتعارضان مع مصالحها ومع مصالح الولايات المتحدة الأمريكية، وقد يستتبع ردا إيرانيا وهكذا دواليك، وهو ما يورطنا فى جبهة تبعد نحو أكثر من 2000كم عن إسرائيل وتتطلب موارد وتخطيطا كبيرين جدا».
• • •
ختاما، بات من المتيقن، أن إسرائيل، بزعامة نتنياهو، ماضية قدما، بسبب نزوات شخصية، فى توريط أمريكا والمنطقة فى حرب لا أحد يستطيع التنبؤ بعواقبها. يهرب نتنياهو إلى الأمام، منذ فضيحة السابع من أكتوبر 2023م، خوفا من المساءلة والحساب، عبر شن حرب تلو أخرى. سيورط الجميع معه. وعلى الدول العربية أن تحذر الانسياق خلف نزواته، وأن تنأى بنفسها عنه بشكل لا لبس فيه. ستظل إيران جغرافيا راسخة وإن اختلفنا معها، وستظل إسرائيل حقبة تاريخية، ستنقضى، إن عاجلا أم آجلا، مع زوال الأسباب التى دعت إلى اختلاقها.