فيما تعتبره دوائرهم الاستخباراتية تهديدا مبطنا لإيران، التى تتنوع ساحات المواجهة معها من لبنان وفلسطين، إلى سوريا والعراق، مرورا بالقوقاز والهند وصولا إلى أفريقيا وأمريكا اللاتينية، تبارى كبار المسئولين السياسيين والعسكريين الإسرائيليين فى استدعاء تلويحهم، القديم الجديد، بتوجيه ضربة إجهاضية لبرامج إيران التسليحية الطموحة، بقصد حرمانها من إنتاج السلاح النووى وأدوات إيصاله من الصواريخ الباليستية.
طيلة عقدين مضيا، انشغلت الأوساط الاستخباراتية والعسكرية الإسرائيلية بسجالات حول استهداف محتمل للمنشآت النووية الإيرانية، إعمالا لاستراتيجية الضربات الاستباقية الوقائية ضد ما تعتبره تل أبيب تهديدات حيوية لوجودها أو أمنها القومى، والمنبثقة عن «مبدأ بيجين»، لاستهداف البرامج النووية بدول الجوار المعادية بغية شل قدراتها على تصنيع قنابل نووية، تذرعا بحق الدفاع عن النفس الذى تكفله المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة. ففى مارس 2018، وبعد أيام من إفراج «الموساد» عن تفاصيل جديدة بشأن الغارة الجوية التى أتت على المفاعل النووى العراقى تموز «أوزيراك» فى 7 يونيو من عام 1981، من خلال العملية «أوبرا»، أعلن الجيش الإسرائيلى، للمرة الأولى، وفى بيان رسمى، مسئوليته عن تدمير ما كان يشتبه بأنه مفاعل نووى سورى بموقع «الكبر» عام 2007، فى عمليتين منفصلتين اعتبرهما وزير الدفاع الإسرائيلى، حينئذ، أفيغدور ليبرمان، رسائل تحذيرية لأعداء بلاده، وفى مقدمتهم إيران.
ما كان لتل أبيب أن تجترئ على استهداف منشآت نووية عراقية وسورية بغاراتها الجوية لولا موافقة واشنطن أو مباركتها. فلقد استبقت إدارة ريجان إدانتها الشكلية للعملية «أوبرا» بمنح حكومة مناحم بيجين، ضوءًا أخضر مبطنا، لاستهداف المفاعل النووى العراقى، تبدى فى مطالبته السفير الأمريكى لدى بلاده بإرسال برقية عاجلة إلى الرئيس ريجان صبيحة السابع من يونيو 1981، يخطره فيها بالعملية قبيل ساعات من تنفيذها فى الساعة الرابعة من عصر ذات اليوم، وهو ما لم يعترض عليه ريجان أو يحاول منعه، معطيا بذلك موافقته الضمنية، التى تكللت بإتمامه صفقة بيع تل أبيب مقاتلات «إف 16» بعد أشهر قلائل من الغارة، التى اضطرته لإرجاء التسليم مؤقتا، قبل أن يأتى وزير الدفاع الأمريكى الأسبق ديك تشينى، ويشيد بتلك الغارة إبان زيارته تل أبيب عام 1991، معتبرا إياها تمهيدا رائعا لعملية «عاصفة الصحراء»، فيما ارتأى مراقبون إعلان الرئيس بوش الإبن من «ويست بوينت» عام 2002، مفهومه الجديد بشأن «العمل الاحترازى العسكرى»، الذى تستهدف واشنطن بموجبه أية دولة تتهم بتطوير أسلحة دمار شامل أو دعم الإرهاب، تأكيدا للمباركة الأمريكية للغارة الإسرائيلية على المفاعل النووى العراقى.
برغم تنوع المعطيات التى دلفت مؤخرا إلى مصفوفة الحسابات الاستراتيجية الخاصة بمخططات تل أبيب لمهاجمة البرنامج النووى الإيرانى، كامتلاكها القدرة التامة على تنفيذ تلك المهمة، دونما حاجة إلى دعم لوجيستى أو تقنى من قبل واشنطن، أو لجوء قاذفاتها للتزود بالوقود جوا، أو اضطرارها للهبوط فى دولة ثالثة، سيما بعد حيازتها لمقاتلات الجيل الخامس الأمريكية الشبحية متعددة المهام من طراز «إف 35»، وتطبيع علاقاتها بدول عربية مجاورة لإيران، تشاطرها الرغبة فى لجم انعطاف الأخيرة للنيل من استقرار الإقليم، بالتزامن مع تدهور قدراتها الردعية، جراء تمديد العقوبات الأمريكية والدولية غير المسبوقة عليها، ما قلص ميزانيتها الدفاعية، وأبطأ وتيرة تطوير برامجها النووية والصاروخية، تبقى الحالة الإيرانية أعمق اختلافا وأشد تعقيدا من نظيرتيها العراقية والسورية.
فكم من تحديات تقنية واستراتيجية تحاصر العملية الإسرائيلية المقترحة ضد المنشآت النووية الإيرانية. فعلاوة على اقتراب عددها من المائة منشأة، تتوزع أهمها على بؤر سرية بين باطن الأرض وأحشاء الجبال، مما يضاعف من صعوبة تدميرها، حيث يتطلب تحضيرات دقيقة، وإمكانات عسكرية ولوجيستية متطورة، وقوة نيرانية ضخمة، وعددا هائلا من الغارات، يطل برأسه رد الفعل المتوقع من قبل إيران وفصائلها الولائية المتمركزة فى غزة ولبنان وسوريا، والمدججة بآلاف الصواريخ المتطورة والمسيرات الانتحارية القادرة جميعها على بلوغ العمق الإسرائيلى، انتقاما من ضربة إسرائيلية، ربما يتسنى لها، إن تمت بنجاح، تعطيل البرنامج النووى الإيرانى، أو إعادته سنوات للوراء، لكنها قد لا تتمكن من قطع دابره.
خلافا لموافقتها الضمنية على استهداف إسرائيل للمفاعلين النوويين العراقى والسورى، ومباركتها لغاراتها المتواصلة على التموضع الإيرانى فى سوريا والعراق، علاوة على مشاركتها حربها السيبرانية ضد البرنامجين النووى والصاروخى لطهران كما اغتيالاتها الممنهجة لكوادرهما البشرية، لا تفتأ واشنطن ترفض التجاوب مع إلحاح تل أبيب لتوجيه ضربة إجهاضية لمنشآت ايران النووية، خشية انفجار الوضع بإقليم حيوى وملتهب فى آن، بحسب صحيفة «نيويورك تايمز». ولعل ذلك ما يغذى مخاوف تل أبيب من أن تفاجئها واشنطن بأمر واقع يخول طهران امتلاك السلاح النووى، توطئة لتوظيف إيران «النووية»، المروضة أمريكيا، ضمن استراتيجية واشنطن الهادفة إلى نقل مركز ثقلها من الشرق الأوسط إلى شرق آسيا، حيث يتعاظم خطر التنين الصينى، بما يستوجب الاعتماد على حلفاء إقليميين لملء الفراغ الجيوسياسى الشرق أوسطى الناجم عن عملية إعادة التموضع الجيواستراتيجى الأمريكى المزمعة. وربما يتخوف نتنياهو كذلك من أن تجنح واشنطن لاتخاذ إيران «النووية» عنصر توازن استراتيجى يكبح جماح مغامرات تل أبيب التوسعية وتطلعاتها المثيرة للمتاعب، مثلما جرى من قبل مع الهند وباكستان، حينما أتاحت واشنطن للأولى بإنتاج السلاح النووى عام 1974 لإحداث توازن استراتيجى مع الصين وروسيا، ثم سمحت لباكستان لاحقا بامتلاكه عام 1998، رغم كونها دولة مسلمة وغير ديمقراطية، بغية موازنة قوة الهند ولجم طموحاتها الاستراتيجية.
وخلال الآونة الأخيرة، تفاقمت المخاوف الإسرائيلية على وقع فوز بايدن بالرئاسة الأمريكية، وتتابع الإشارات لنيته العودة للاتفاق النووى لعام 2015، بعدما طعم إدارته بمسئولين سبق لهم العمل مع أوباما، وساهموا فى إدراك ذلك الاتفاق، أمثال: وليام بيرنز، مدير وكالة الاستخبارات المركزية، وجيك سوليفان، مستشار الأمن القومى، وانتونى بلينكن وزيرالخارجية، وروبرت مالى، المبعوث الخاص بالشأن الإيرانى. وعلى عكس أوباما عام 2015، يحتفظ بايدن بأغلبية ديمقراطية فى مجلسى الشيوخ والنواب، من شأنها تقوية موقفه السياسى وتحصينه ضد أية محاولات لابتزازه أو الضغط عليه.
توسلا منها إبطاء وتيرة انفتاح إدارة بايدن إزاء طهران، عمدت أوساط إسرائيلية إلى استحضار تهديداتها بالإقدام على تحرك عسكرى منفرد ضد المنشآت النووية الإيرانية دون الرجوع لواشنطن، التى حرص رئيس الوزراء الإسرائيلى الأسبق بن جوريون على ألا يتأتى توثيق علاقات بلاده الاستراتيجية معها على حساب وجودها أو استقلالية قراراتها، ومن ثم تجنب الارتباط معها بمعاهدات عسكرية مخافة تقليص مساحة المناورة أو حرية الحركة المتاحة لتل أبيب. وفى صيف 1982، امتنع مناحم بيجن عن تلبية طلب الرئيس ريجان بالتريث فى اجتياح بيروت. وخلال حقبة أوباما، أظهر استطلاع للرأى أجراه مركز بيجن ــ السادات للسلام، موافقة 50% من الإسرائيليين على توجيه ضربة للمنشآت النووية الإيرانية، حتى لو رفضت واشنطن. وقبل أيام، اعتبر وزير شئون المستوطنات الإسرائيلى، إحجام واشنطن عن استهداف المنشآت النووية الإيرانية، رغم تآكل قدرة طهران على الرد الموجع، محفزات لبلاده على التحرك العسكرى المستقل للحيلولة دون بروز إيران نووية.
ويبدو أن استراتيجية الابتزاز الإسرائيلية لإدارة بايدن قد آتت أكلها. ففى مسعى منها للجم تل أبيب عن أى تحرك عسكرى منفرد ضد إيران، هرعت واشنطن لامتصاص الاندفاعة الإسرائيلية، عبر وضع شروط تعجيزية للعودة لاتفاق نووى، تصر على ضرورة التزام إيران بجميع بنوده، كما تريده أقوى وأشمل وأطول مدى، وغير منبت الصلة بالأمن الإقليمى، كما شددت العقوبات على طهران، وعززت تدابير ردعها، من خلال إرسال القاذفة «بى ــ 52 ستراتوفورتريس» بعيدة المدى، لتنفيذ ثالث طلعاتها منذ بداية العام الجارى فوق منطقة الخليج العربى، وأولاها منذ تنصيب الرئيس بايدين، لإثبات قدرة الجيش الأمريكى على نشر قواته الجوية فى جميع أصقاع المعمورة لردع أى هجوم محتمل، وتأكيد التزام واشنطن بأمن حلفائها، فى الوقت الذى تؤكد تقارير استخباراتية عزم إدارة بايدن نشر منظومات «القبة الحديدية» الصاروخية الإسرائيلية ببعض دول الخليج لحماية المصالح والقوات الأمريكية بها من أية اعتداءات إيرانية.
يأتى هذا بينما يستعد، مدير «الموساد»، لزيارة واشنطن الشهر الجارى، كى يعرض على إدارة بايدن أحدث تقاريره بشأن تطور البرنامج النووى الإيرانى، ويتدبر معها أمر الإصلاحات الجذرية التى يتعين إدخالها على اتفاق عام 2015، كتغليظ العقوبات على طهران، وحملها على تعليق أنشطة تخصيب اليورانيوم، ووقف إنتاج أجهزة طرد مركزى متقدمة، وتمكين الوكالة الدولية للطاقة الذرية من مباشرة الرقابة الشاملة والدقيقة والمتواصلة على مختلف محتويات برنامجها النووى، فضلا عن تجفيف الدعم لفصائلها الولائية، وإنهاء وجودها العسكرى فى العراق وسوريا واليمن، والتراجع عن استهداف المصالح الإسرائيلية حول العالم، عساها تقوض مساعى طهران الحثيثة لامتلاك أسلحة نووية وصواريخ باليستية ومسيرات متطورة، وتجبرها على التخلى عن مشاريع الهيمنة الإقليمية، بغير رجعة طبقا لوجهة النظر الاسرائيلية.