كان نيكولا ساركوزى صريحا للغاية فى نقده للولايات المتحدة خلال زيارته الأخيرة لها. انتقد الجدل الذى دار على مشروع قانون الرعاية الصحية، وحمل الولايات المتحدة الأمريكية المسئولية عن الأزمة المالية العالمية، وحذر من عواقب غياب القواعد على مستقبل النظام الرأسمالى.
خطر على بالى أكثر من مرة أن أكتب معبرا بصراحة عن رأيى فى نيكولا ساركوزى. وكنت دائما أمتنع لسبب أو آخر. لم يعجبنى ما قرأته عن نيكولا الطفل والمراهق. ولم أجده مثالا يحتذى فى علاقة الابن بأبيه وفى علاقة الأخ بشقيقيه الأطول قامة والأوفر ذكاء وعلما ثم فى علاقة الزوج بزوجته وأم أولاده.
لم أقتنع بالرجل زعيما لفرنسا أو قائدا لأوروبا أو خليفة لشارل ديجول، خشيت أن ينعكس عدم إعجابى أو اقتناعى به على ما أكتبه عنه أو عن سياسة فرنسا فى عهده أو حتى عن دوره السيئ فى محاولة صنع سياسة أوروبية تجاه صراع العرب مع إسرائيل وتجاه موضوع انضمام تركيا للاتحاد الأوروبى وتجاه القارة الأفريقية وتجاه الولايات المتحدة وحربيها فى العراق وأفغانستان. لم تتغير قناعاتى ولكن حدثت تطورات ضغطت لتحفزنى للكتابة عن الرجل.
حدث منذ أيام أن خرج علينا دومينيك دى فيليبان، رئيس وزراء فرنسا السابق، بتصريحات أعلن من خلالها نيته إنشاء حزب سياسى جديد ليتحدى به نيكولا ساركوزى فى الانتخابات المقبلة لاختيار رئيس الجمهورية الفرنسية. ويبدو أن دى فيليبان اختار الوقت المناسب لإعلان هذه النية، إذ لم تكن الساحة السياسية الفرنسية أفاقت بعد من صدمة الهزيمة التى منى بها الحزب الديجولى بقيادة ساركوزى فى الانتخابات الإقليمية، وفى وقت هبطت فيه شعبية رئيس الجمهورية إلى الثلاثين بالمائة أو ما دونها، وبينما كان المجتمع الباريسى منشغلا بالتدقيق فى صحة شائعات عن قرب افتراق الرئيس عن زوجته الجديدة كارلا برونى ورفضها إنكار إعجابها برجل آخر.
لم يكن دى فيليبان فى تصريحاته ناعما أو رقيقا كما يدل مظهره وتاريخه. قال عن «الساركوزية» إنها قضى عليها بالفشل، وعن ساركوزى إنه فشل لأنه اعتمد «إستراتيجية مبعثرة»، وأقدم على تنفيذ «إصلاحات متعجلة». وأثبت قدرة خارقة على «سوء الاختيار». وكان لتصريحاته صدى قوى فى الأوساط السياسية الفرنسية وداخل مقر الاتحاد الأوروبى فى بروكسل وفى برلين خاصة.
شعرنا، كما شعر الكثيرون فى كل تلك المواقع، أن خروج دى فيليبان عن إرادة الحزب وإعلان نيته تشكيل حزب آخر يضم معارضى سياسات ساركوزى داخل الحزب الديجولى، يمثل ضررا هائلا للحزب ويهدد إمكانية فوزه فى الانتخابات الرئاسية المقبلة ويفتح الباب مجددا أمام الاشتراكيين لتوحيد صفوفهم المنهارة أساسا، ويفتح بابا آخر أمام اليمين المتطرف بقيادة لوبين لاستعادة شعبيته التى فقد جزءا منها حين زايد عليها ساركوزى فى الانتخابات الرئاسية الماضية.
الصورة من باريس كانت كالتالى. ساركوزى يمر بأسوأ أوقات عهده منذ وصوله إلى قصر الإليزيه قبل عامين، اهتزت ثقته بنفسه بدرجة كبيرة. حياته العائلية مهددة حسب الشائعات، شعبيته منهارة لدى الرأى العام الفرنسى. صورة، إن صدقت، لاستدعى الأمر فورا تعبئة كافة مستشاريه من أجل العمل على تحسينها أو على الأقل منع تدهورها، وكانت الزيارة المقررة سلفا إلى الولايات المتحدة الفرصة المناسبة.
***
كان مقررا أن يلقى نيكولا ساركوزى خطابا فى نيويورك أمام طلبة جامعة كولومبيا وهيئة التدريس فيها وكبار الشخصيات السياسية فى المدينة. وبالفعل جاء ساركوزى مستعدا ومزودا بجميع الأدوات والتسهيلات التى تساعد فى صنع صورة مختلفة عن تلك التى خلفها وراءه فى باريس قبل أن تقله الطائرة إلى الولايات المتحدة. اعتمد ساركوزى وحاشيته على كفاءة وسائط الإعلام الأمريكية التى عبأت جميع إمكاناتها لاستقبال عارضة الأزياء والفنانة كارلا برونى بصفتها الراهنة كزوجة رئيس فرنسا.
كانت الأنباء التى سبقت وصول ساركوزى إلى الولايات المتحدة وفتحت شهية الميديا الأمريكية تتحدث عن توتر فى العلاقة بين نيكولا وكارلا لاحظه الفرنسيون وازدادت شكوكهم عندما اكتشفوا أن كارلا تقضى أياما كثيرة فى شقتها الخاصة بباريس ولا تبيت كثيرا فى قصر الرئاسة. ويبدو أن خطة المستشارين لتحسين صورة رئيسهم تعمدت التركيز على مظاهر الحميمية فى العلاقة بين كارلا والرئيس. وبالفعل لم يترك الزوجان فرصة وجود مصور إلا وتحاضنا.
لم يدع نيكولا أصابع يد كارلا تفلت من أصابع يده، تبادلا القبلات عندما هما بالخروج من الفندق الذى أقاما فيه فى نيويورك حين علما أن مئات الكاميرات تنتظر خروجهما. بل إنهما صعدا الدرج المؤدى إلى قاعة الاحتفالات فى جامعة كولومبيا وقد تلاصق الجسدان وتشابكت الأصابع. لم يكن خافيا على أحد، أن أكثر من فى القاعة جاءوا من أجل مشاهدة كارلا، وبالتالى كان على ساركوزى الالتصاق بها ليحظى بجانب فى كل صورة تلتقط لها.
كان واضحا أن مستشارى الإليزيه اهتموا بكل صغيرة وكبيرة يمكن أن تؤثر فى صنع صورة جديدة لنيكولا. فإلى جانب النصح بأن يلتصق بكارلا طول الوقت وأن تتشابك أصابعهما وأن يختلسا القبلات بين الحين والآخر أمام الكاميرات حتى ان صحفا فرنسية صدرت تحكى تفاصيل زيارة الرئيس وزوجته إلى الولايات المتحدة تحت عنوان «عاشقان فى نيويورك» ألبسهما المستشارون من أفخر الثياب ما يتناسق وبعضه البعض، فالبذلة التى ارتداها نيكولا كانت سوداء وربطة العنق بيضاء وقميص كارلا اسود وتنورتها رمادية وشمسيتها التى كلفوها بحملها بدلال ورشاقة كانت من اللونين الأسود والأبيض.
لم ينس المستشارون وخبراء الديكور أن يشحنوا بالطائرة من باريس إلى نيويورك المنصة المصنوعة فى فرنسا خصيصا ليلقى من فوقها نيكولا خطابه. وقد راعى المصممون أن تكون المنصة مناسبة للتعويض عن قصر قامة الرئيس وصغر حجمه وأن تكون المنصة من الخشب الأبيض والسجادة المصاحبة لها من اللون الرمادى الفاتح لتنسجم مع ملابس الرئيس وكارلا.
*******
استقر المقام بالضيف وحرمه على خشبة المسرح. انطلقت فلاشات مائة آلة من آلات التصوير ركزت جميعها بدون استثناء على كارلا، وجها وجسدا، ولم تعر نيكولا خطيب الحفل اهتماما يذكر. بعد دقائق قام رئيس الجامعة بواجب تقديم الرئيس ساركوزى فحياه الحضور بالتصفيق، ثم طلب توجيه تحية خاصة للسيدة كارلا فإذا بالحاضرين ينتفضون وقوفا وتصفيقا على امتداد وقت غير قصير. وبالرغم من طلاقة لسان ساركوزى وحديثه الذى اتسم بالقوة والفصاحة إلا أن الكاميرات بقيت ملتزمة وجه كارلا الجالسة على مقعد فى الصف الأمامى.
******
كان خطابا جيدا حسب رأى بعض الإعلاميين الحاضرين، بدأه ساركوزى بالقول إن الخطب المعدة سلفا عادة ما تقتل الإبداع وبالفعل ألقى بعيدا بالخطاب المطبوع، وقال «سأتحدث من القلب»، ولم تفت على مراسل إحدى الصحف التعليق على هذه العبارة بالقول أن نيكولا تعمد أن يبعث برسالة مفادها أنه أحسن من أوباما الذى يلقى خطبا معدة سلفا.
ولا شك فى أن خطاب ساركوزى حظى بتغطية واسعة، وبخاصة الفقرة التى انتقدت أمريكا حكومة وشعبا بقوة وجاء فيها «نحن فى أوروبا مندهشون من أمة مازالت تناقش قضية التخلى عن الفقراء بدون رعاية أو عناية..» جاء أيضا «أنت إذا جئت إلى فرنسا وحدث مكروه لك، لن يسألك أحد عن بطاقة ائتمانية قبل أن ينقلك فورا إلى المستشفى».» أنتم الآن وبعد التصديق على قانون الرعاية الصحية مرحب بكم فى نادى الدول التى لا تتخلى عن مرضاها الفقراء أو تلقى بهم إلى مقالب النفاية.
إن القضية التى تحاربتم عليها على امتداد عام كامل انتهت منها أوروبا قبل نصف قرن. «وأشار إلى الفوضى التى تعم الاقتصاد الأمريكى فقال» إن غياب القواعد يقتل الحريات.. وينذر بموت الرأسمالية، وحذر من أن الأوروبيين «لن يستطيعوا بعد الآن الموافقة على نظام رأسمالى لا يعتمد على قواعد وأصول واضحة».
***
انتهت زيارة الضيفين الفرنسيين إلى الولايات المتحدة بعشاء خاص فى شقة باراك وميشيل أوباما بالبيت الأبيض، وقد حمل الضيف إلى ابنتيهما ساشا وماليا مجموعة كتب رسومات كاريكاتورية. وكان القصد من العشاء الخاص إبلاغ الرأى العام فى البلدين أن العلاقة الشخصية بين الرئيسين عادت طيبة بعد فترة من التردد وعدم الانسجام المتبادل.. غير خاف على أحد أن لكل من الزعيمين حاجة عند الآخر. أوباما يريد مزيدا من القوات الفرنسية لتحارب مع الأمريكيين معارك الشهور الأخيرة فى الحرب الأفغانية وساركوزى يريد دعما أمريكيا لاستعادة شعبيته فى فرنسا وداخل الحزب الديجولى ولاستعادة مكانة فرنسا فى القارة الأوروبية.
غريب أن تنتهى الزيارة دون أن يسمع الأمريكيون من كارلا مباشرة عن أمور تجاهر بها فى بلادها ولا ترددها خارجها، منها على سبيل المثال اعتناقها مبدأ حق الرجل فى تعدد نسائه، وحق المرأة فى تعدد رجالها. أحسن المستشارون صنعا حين قيدوا حريتها كزوجة واستفادوا من خبرتها كعارضة.