كنت مقتنعا بأن أسرع، وربما أفضل، وسيلة للاقتراب من تكوين صورة عن مستقبل دولة من الدول أو أمة من الأمم هو التعرف على أهم الأسئلة التى يتداولها الناس، حكاما ومحكومين، وتجميعها وتحليلها. تعلمت فى مرحلة من مراحل حياتى المهنية أن نجاح الدبلوماسى يعتمد إلى حد كبير على كفاءته فى ابتكار الأسئلة المناسبة وصياغتها، وتعلمت فى مرحلة أخرى أنه من الممكن جدا التنبؤ بجودة تحقيق أو مقال صحفى استنادا إلى السؤال أو الأسئلة التى أعدها الصحفى أو الكاتب فى موضوع تحقيقه أو مقاله. ونتعلم الآن، فى تجربتنا المصرية الراهنة، كيف نقرأ مستقبلنا السياسى من متابعة الأسئلة التى يطرحها المرشحان وأسئلة أخرى يتمسك بطلب الإجابة عنها أغلبية المصريين.
الأسئلة فى تونس قد تختلف عن الأسئلة فى ليبيا، وعن الأسئلة فى سوريا والعراق والأردن. ولكنه الاختلاف الذى يعكس خصوصية التطور الاجتماعى والسياسى الذى شهدته هذه البلدان فى العقود الأخيرة، ويعكس فى الوقت نفسه نتائج «الفرز» الطبيعى والنخبوى الذى تسببت فيه ثورات ما يسمى بالربيع العربى، سواء داخل مجتمعات الثورة أو فى مجتمعات الجوار العربى. أستطيع أن اقول، وبدرجة عالية من الثقة، إن العرب فى كل أقطارهم يطرحون أسئلة تختلف عن الأسئلة التى كانوا يطرحونها قبل أربع أو خمس سنوات. بمعنى آخر، يفكرون فى مستقبل مختلف عن كل المستقبلات التى كانت مقررة لهم.
•••
تابعت التغيير فى الأسئلة المثارة فى منطقة الخليج. أسئلة كانت على هامش اهتمامات الخليجيين، حكاما ونخبا أكاديمية وإعلامية، صارت الآن فى الجوهر، وأسئلة جديدة، تجاوزت بجرأتها وقوتها حدود «الخجل» الخليجى المعهود، أسئلة تمزق أستارا أو تفتح أبوابا أمام اهتمامات غير مسبوقة. أسئلة تعبر عن قلق ولكن فى غير خوف ورعب، وأسئلة تسمعها لأول مرة، لم تكن التقاليد ولا القواعد تسمح بأن تثار، فإن أثيرت فبالهمس. وكالعادة، كما فى مجتمعات أخرى، قد يبدأ التغيير عند قمة الحكم فيثير بدوره أسئلة تستوضح وتستنكر أو تشجع وتؤيد.
•••
من النماذج اللافتة مجموعة الأسئلة «الشبابية»، وبعضها يكاد يكون نسخا متطابقة لأسئلة تثار فى جميع المجتمعات. فقد دأب الكبار فى هذه المجتمعات على الاستمرار فى تذكير العامة والصغار بأنهم، أى الكبار، إنما يكدون ويكدحون طول العمر من أجل العامة والصغار. وبالمعنى الدارج فى معظم الدول، من أجل الأجيال القادمة. سمعت بين الشباب، أو للدقة قرأت لهم، ما يعكس رفضهم هذا الادعاء، يقولون إن الكبار، كانوا يعملون ويكدحون من أجل أنفسهم أولا، وما زاد من طاقة استمتاعهم واكتنازهم، اسبغوا عليه عبارة ضمان مستقبل الأبناء والأجيال القادمة.
يقابل هذا التمرد من الصغار غضب من الكبار. الكبار يسألون عن مستقبل مجتمعات ساءت فيها أخلاق الشباب وتدهورت لغتهم وانحدر مضمون أدوات التواصل الاجتماعى بينهم. تسود بين الكبار حالة تذمر من تصرفات الصغار. وتسود بين الصغار حالة «إنكار». يقولون نحن بخير، أما كبارنا فيلقون بتبعة فشلهم علينا. هم الذين أسبغوا علينا النعم ووفروا لنا أغلى الطيبات والرحلات، ليستريحوا بالضمير الراضى وليستبدوا بنا ويبعدونا عنهم.
أبالغ فى تقدير مدى اتساع الفجوة بين الكبار والصغار هناك. ولكنى لا أبالغ حين اعتبر أن هذه الفجوة فى العلاقة بين الأجيال فى الخليج تكاد تكون فى خطورة وأهمية «الثورة» فى مجتمعات أخرى. أن يحدث هذا الأمر فى مجتمعات حافظت على استقرارها بفضل التقاليد وأهمها احترام الصغار للكبار، فهذا أمر يستحق الوقوف أمامه طويلا لمن يحاول قراءة المستقبل. إن بعض الأسئلة التى يطرحها الشباب فى منطقة الخليج، لم يجرأ بعد على طرحها بهذه القوة والصخب شباب الكوريتين واليابان، حيث تسود الثقافة الكونفوشية التى تفرض على الصغار احترام الكبار. هناك يبدأ الطرح خجولا ووقورا كما يتضح النقاش الدائر حاليا فى كوريا الجنوبية.
•••
النموذج الآخر من مجموعات الأسئلة المثارة فى مجتمعات الخليج، هو المتعلق بالعلاقات بين النخب الحاكمة هناك. وقع بدون أدنى شك تطور غير مألوف فى العلاقات السياسية الخليجية. إذ جرى العرف بين أعضاء مجلس التعاون على أن تدور خلافاتهم، إن دارت، فى غرف مغلقة. وهو الأمر الذى أنهك أكاديميين عديدين من العرب وغير العرب خلال محاولاتهم الحصول على معلومات عن نزاعات ناشبة بين عائلتين حاكمتين فى الخليج أو أكثر. كان الرهان بين أغلبهم أن التطورات السياسية والاجتماعية الحادثة فى الشرق الأوسط وفى العالم على اتساعه لن تسمح للقوى الحاكمة الخليجية بالاستمرار فى ممارسة أسلوب التعتيم على نزاعاتهم داخل مجلسهم. كان الرهان ايضا أن النزاعات سوف تخرج إلى العلن فى وقت أقرب مما يتصور الكثيرون.
وبالفعل، يمكن القول، إن «الخجل» الذى اتضح انحساره النسبى فى المجتمعات الشبابية، سواء فى تغريداتهم أو رسائلهم النصية، وبين الشباب والكبار، سواء داخل الأسرة أو فى قاعات العمل، بدأ ايضا ينحسر على مستوى النخب السياسية، لم يعد القادة السياسيون يجدون حرجا فى الإعلان عن نزاعاتهم وخلافاتهم، أو على الأقل السماح بتسريب بعضها. بل وصاروا يتجاوزون حدود تقاليد السياسة الخليجية التى حرصت دائما على احترام تراتيب المكانة فى علاقات الحكام بعضهم ببعض.
•••
النموذج الثالث من نماذج الأسئلة الكاشفة عن اتجاهات مستقبلية، هى الأسئلة المتعلقة بالعامل الخارجى. هناك أسئلة تتردد على ألسنة كثير من قادة الفكر والسياسة والإعلام وتتعلق بمصير الخليج «العربى»، فى ظل تقارب، ويحتمل أن يضطرد عمقا واتساعا بين الولايات المتحدة وإيران. لا يفى بعض هؤلاء خشيتهم من أن يكون لهذا التقارب فعل الزلزال بالنسبة لهدوء واستقرار علاقات دول الخليج بالغرب، وعلاقاتها ببعضها البعض. يعتقدون، أن نتائج هذا التقارب لن تكون أقل أهمية من نتائج ثورات الربيع العربى على منطقة الخليج.
هناك من يؤكد أن جانبا من هذه الأسئلة يتعلق بالابتعاد المتسارع للولايات المتحدة عن الشرق الأوسط، ومساعى الرئيس أوباما للتخلص من أعباء التورط فى أزمات المنطقة، استعدادا لأوضاع جديدة تماما فى منطقة شرق آسيا. لذلك وجدت من يسأل عن ضرورة توجيه المنظومة الإعلامية والسياسية الخليجية نحو مواقع نفوذ دولية جديدة، وبخاصة إذا تأكد أن إنتاج الولايات المتحدة من الطاقة قد وصل إلى مستوى يسمح لها بالتصدير إلى أوروبا.
يرتبط بهذه المجموعة من الأسئلة سؤال يتعلق بمصر. هذا السؤال يتردد بصيغ مختلفة وفى سياقات عديدة. ولكن يبقى جوهره ثابتا وواضحا. وهو مصر إلى اين؟ إنه السؤال الذى يكشف أكثر من غيره عن طبيعة المرحلة «الانتقالية» التى تمر فيها المجتمعات السياسية الخليجية، فضلا على أنه كبقية الأسئلة يعبر عن حال القلق والرغبة فى توفير مصدر يستعيد للإقليم الثقة بنفسه والمستقبل.