ظلت المسألة اليهودية، والتى تشير إلى الكيفية التى يمكن (أو لا يمكن) بها دمج المجتمعات اليهودية فى أوروبا واعتبارهم جزءًا أصيلًا من المجتمعات الأوروبية، شاغلة بال المجتمعات الأوروبية المسيحية بالإضافة إلى المجتمعات اليهودية التى بقيت فى أوروبا حتى بعد قيام الحركة الصهيونية التى شرحنا طريقة عملها فى المقالات السابقة.
الحقيقة أن اليهود الذين بقوا فى أوروبا كانوا أحد ثلاث فئات رئيسية، إما فئة لم تشهد عمليات الاضطهاد الممنهج لليهود فى أوروبا الشرقية، وأنا أعنى هنا تحديدًا يهود أوروبا الغربية، أو فئة ثانية لم تتمكن من الهجرة لفلسطين لأسباب لوجستية أو مالية أو سياسية، بالإضافة إلى فئة ثالثة من اليهود غير الصهاينة الذين رفضوا الحركة الصهيونية ورفضوا الاستجابة لنداءاتها بما فيها النداء للهجرة إلى أرض الميعاد وإنشاء الوطن القومى لليهود فى فلسطين التاريخية!
تشير التقديرات أن تسعة ونصف مليون يهودى ويهودية كانوا فى أوروبا عام ١٩٣٣، وهو العام الذى وصل فيه هتلر إلى السلطة فى ألمانيا مشكلين نحو 1,7٪ من سكان أوروبا، ونحو ٦٠٪ من يهود العالم الذين قدروا فى نفس هذا العام بنحو خمسة عشر مليون وثلاثمائة ألف يهودى ويهودية! شكل هتلر عقيدته النازية على بعض الأبحاث العلمية التى روجت لفكرة النقاء العرقى، أى أنه يمكن إعادة هندسة الجنس البشرى للتخلص من المعاناة البشرية عن طريق التطهير العرقى للأجناس أو الأعراق غير الكفؤة! كان من أعلام هذا الاتجاه العلمى العنصرى البيولوجى الألمانى، ألفريد بلوتز، الذى روج لفكرة «تحسين النسل» لخلق أجيال أكثر كفاءة وإنتاجية! بالإضافة إلى الكتاب الأخطر المشترك بين رجل القانون الألمانى، كارل بيندنج، والطبيب النفسى، ألفريد هوج، وكان بعنوان «السماح بتدمير حياة من لا يستحق الحياة» ورغم أن الكتاب لم يختص عرقًا بعينه بالدعوة لقتله، لكنه سمح بالقتل الرحيم فى حالات الأمراض المستعصية، وهى المؤلفات التى استخدمها هتلر لاحقًا كمبرر لعمليات الإبادة الجماعية بحق اليهود والغجر، والإسبان وأصحاب الإعاقات وغيرهم!
• • •
عندما وصل هتلر إلى السلطة بدأت عمليات اضطهاد اليهود فى ازدياد وخاصة بعد أن اعتمد النازى على شعار «الحل الأخير»، والذى كان يعنى ببساطة التخلص من يهود أوروبا إلى الأبد سواء بالقتل أو التهجير، وبدأت هذه السياسات تدريجيًا فى التصاعد سواء من حيث طريقة «التخلص» من اليهود أو من حيث أعداد اليهود المضطهدين! كانت البداية فى التضييق على اليهود وسبهم فى الشوارع أو استغلالهم فى الأعمال البسيطة مقابل أجر زهيد مرورًا بحث النظام النازى الشعب الألمانى على التعرض لليهود ومحالهم، فبدأ الأمر أولا بمقاطعة المتاجر اليهودية، ثم برسومات وكلمات مسيئة على أبنيتهم ومتاجرهم ومعابدهم، وصولًا إلى تخصيص أيام فى السنة لتكسير ممتلكاتهم ومقدساتهم وتدميرها، ولعل أبرز الأمثلة هنا ما حدث يومى ٩ و١٠ نوفمبر عام ١٩٣٨ حينما خصص النازيون حملة اسمها «ليلة تكسير الزجاج» دعت إلى تكسير كل محال اليهود التجارية ومعابدهم بطول البلاد وعرضها، بينما وقفت القوات الألمانية تشاهد بلا حراك!
قبل ذلك بنحو ثلاثة أعوام، قام الحزب النازى بسن قانون يمنع الزواج بين الألمان واليهود، بل يجرم قيام علاقات جنسية بينهم حتى خارج الزواج، وقام القانون بتعريف اليهودى بأنه أى شخص لديه حتى الجد (الجدة) الرابع(ة) دم يهودى بما فيها حتى هؤلاء الذين لا يعرفون أنفسهم كيهود! وفى العامين ١٩٣٨ و١٩٣٩ تم سن المزيد من القوانين التى تجرم العمالة اليهودية وهكذا ظل الحال حتى عام ١٩٣٩ اضطهادًا، لكنه لا يؤدى للقتل المباشر، لكن بعد قيام الحرب العالمية الثانية عندما قام هتلر بغزو بولندا ازدادت وتيرة الاضطهاد وصولًا إلى التخلص من اليهود وغيرهم من الفئات المضطهدة الأخرى بأساليب شديدة التوحش واللا إنسانية!
فقد تم أولًا وضع يهود بولندا وباقى الأراضى المحتلة بواسطة القوات النازية فى «جيتو» مغلق عليهم وسط ظروف اقتصادية واجتماعية وصحية شديدة السوء لإجبارهم على الهجرة، ثم تم تهجيرهم فى رحلات طويلة بالقطار إلى معسكرات اعتقال بربرية، ثم أخيرًا تم اتباع سياسة محارق الغاز، حيث يتم رمى اليهود فى غرف الغاز والتخلص منهم بالحرق ثم دفنهم فى مقابر جماعية! واستمرت هذه المحارق حتى انتهاء الحرب العالمية الثانية وهزيمة الجيش النازى!
فى المجمل فقد تم قتل حوالى ٦ ملايين من اليهود، منهم حوالى ٢.٧ مليون فى محارق الغاز وقد تم ذلك تحديدًا فى العديد من المعسكرات، لكن الأعداد الأكبر كانت فى خمسة معسكرات اعتقال كبرى حيث تم حرق حوالى ١٥٠ ألفًا فى معسكر «كليمنو» ونصف مليون فى معسكر «بيلزك»، و٢٠٠ ألف فى معسكر «سوبيبور»، و٩٠٠ ألف فى معسكر «تريبلينكا»، ومثلهم فى معسكر «أوشيفتس»، وكلها تقع فى بولندا التى كانت تقبع تحت الاحتلال النازى!
بالإضافة إلى ذلك فقد تم قتل حوالى ميلونى يهودى ويهودية فى عمليات قتل جماعى سواء باستخدام عربات الغاز أو بإطلاق النار أو بغيرهما من الطرق وقد وقعت أكبر هذه العمليات فى كوفنو (حاليًا فى ليتوانيا)، وريجا (لاتفيا)، وفلنا (بولندا)، ومنسك (روسيا البيضاء).
كما تم قتل حوالى مليون يهودى ويهودية فى الجيتو وكذلك فى معسكرات العمالة الجبرية، وجدير بالذكر أن الحزب النازى قد قام بإنشاء خمسة أنواع مختلفة من معسكرات الاعتقال؛ النوع الأول هو ما يمكن أن نسميه «المعسكرات المكدسة» أو «المعسكرات المركزة»، وهى كانت بمثابة معسكرات لاعتقال المدنيين ممن قدرت النازية أنهم يشكلون تهديدًا لها، أما النوع الثانى فهو معسكرات العمالة الجبرية، وهى معسكرات للعمل الجبرى تحت ظروف شديدة السوء لمعتقلى النازية وذلك لإمداد الاقتصاد الألمانى بالموارد اللازمة، بسبب تأثر الإنتاج بظروف الحرب، فيما كان النوع الثالث هو معسكرات الانتقال (الترانزيت)، وهى كانت معسكرات مؤقتة للمدنيين المقبوض عليهم قبل انتقالهم إلى معسكرات القتل، ثم معسكرات أسرى قوات التحالف المقبوض عليهم ومعظمهم كانوا من الجنود الروس والبولنديين، بينما كانت آخر أنواع هذه المعتقلات هى «معسكرات القتل»، والتى تم تخصيصها تحديدًا لقتل اليهود وغيرهم من الفئات التى صنفت كعدوة للنظام النازى، ومنها المعسكرات المذكورة أعلاه والتى تم حرق اليهود فيها فى محارق الغاز!
أخيرًا تم قتل حوالى ٢٥٠ ألف يهودى ويهودية فى ظروف أخرى خارج الجيتو ومعسكرات الاعتقال، وهى حوادث متفرقة جرى فيها قتل اليهود وغيرهم، لكن بشكل غير منظم!
• • •
الحقيقة أن هناك بعض الكتابات أو المواقف السياسية والدينية (الغربية والعربية) التى تشكك فى «الهولوكوست» أو تقلل من مصداقيته وتتنوع هذه المواقف بين ثلاثة فرق؛ الفريق الأول يرفض وقوع الهولوكوست من الأصل ويروج لكونها حادثة مختلقة وغير واقعية ولا منطقية! بينما يرى الفريق الثانى أن الهولوكوست قد وقع بالفعل، لكن تم تضخيم أعداد الضحايا للحصول على تعويضات لاحقة، فيما يرى فريق ثالث أن الضحايا لم يكونوا وحدهم من اليهود، لكن تم التركيز على اليهود وحدهم لأسباب سياسية، أو بعبارة أخرى بأنه قد تم تسييس الحادثة، فما هى حقيقة الأمر وأى هذه الفرق الثلاثة الأقرب للصحة؟ هذا ما أناقشه فى المقال القادم.
استدراك: ورد فى مقال الأسبوع الماضى خطأ فى اسم أول رئيس لإسرائيل فقد ورد الاسم بالشكل التالى «حاييم وايتسمان»، والصحيح هو «حاييم وايزمان»، فعذرًا للخطأ غير المقصود.