«عن أية ديموقراطية نتحدث؟» كان سؤالنا فى مقالة الأسبوع الماضى، ذلك أن موضوع الديموقراطية، الذى ظن الكل بأنه قد حسم منذ زمن طويل، قد أصبح الآن موضوع الساعة عبر العالم كله، بما فى ذلك عبر البلدان التى وضعت أسس الديموقراطية وطورتها وصدرتها للعالم كله.
عبر عقود طويلة قيل بأن الديموقراطية التمثيلية، المكونة أساسا من وجود أحزاب سياسية متنافسة عبر انتخابات دورية حرة ونزيهة ومن وجود برلمانات يتكلم أعضاؤها المنتخبون باسم الشعب ولصالح الشعب ويراقبون ويحاسبون السلطة الحكومية، بأنها هى الأفضل والأنزه والأكثر حماية للصالح العام.
لكن تراجع ثقة الناس فى الأحزاب، لأسباب كثيرة، وتراجع نسبة الناخبات والناخبين إلى حدود مقلقة وخطرة، وهيمنة أصحاب المال والوجاهة الاجتماعية ومؤسسات الإعلام التابعة لهم على العملية الانتخابية برمتها، قاد إلى برلمانات خادمة لصالح جهات الهيمنة بدلا من المصالح العامة. وظهر ذلك جليا فى السنين الأخيرة عندما عجزت البرلمانات عن الوقوف فى وجه الهجمة الرأسمالية النيوليبرالية العولمية البالغة التوحش والانحياز لأصحاب الثروة الطائلة وعمليات الخصخصة الفاسدة الظالمة للطبقات الفقيرة والمتوسطة.
من هنا طرح البعض منذ نحو عقدين من الزمن شعار الديموقراطية التشاركية، التى ركزت على الجانب الاقتصادى فى الديموقراطية واشترطت وجود عدالة معقولة فى توزيع الثروة ووجود دولة الرعاية الاجتماعية لتوفير الخدمات الاجتماعية والمعيشية للفقراء والأشخاص المهمشين على الأخص.
لكن مظالم وأطماع وأنانية وفردية الأنظمة النيوليبرالية لم تتراجع، وزاد غنى الأغنياء واستفحل فقر الفقراء، فكان أن طرح البعض أخيرا فكرة الديموقراطية الانتمائية، وهى تركز على تنظيم وتنشيط وتعاضد مواطنى المجتمعات المحلية، ليديروا الكثير من شئونهم المحلية وليشاركوا من خلال لجان محلية منتخبة فى وضع أولويات ووسائل صرف ميزانياتهم المحلية، وما تخصصه الحكومات من أموال للمجتمعات المحلية، وليتعاضدوا فى الضغط على الأحزاب والحكومات والبرلمانات ليقوموا بمسئولياتهم تجاه خدمة عموم المواطنين بدلا من خدمة مصالح أصحاب المال والوجاهة والنفوذ. فى هذه الديموقراطية يشارك كل أفراد المجتمعات المحلية فى خدمة مجتمعاتهم من جهة وفى خدمة كل الوطن من جهة أخرى.
نحن إذن أمام سيرورة تفضح عاما بعد عام أكذوبة الديموقراطية الليبرالية التمثيلية التى كانت تتكلم باسم الأكثرية، كذبا ونفاقا، لتخدم الأقلية. غابت العدالة والقيم الإنسانية والأخلاقية وراء أقنعة من الشعارات التى تناست روح الديموقراطية الإنسانية الحقة.
ما يهمنا، نحن العرب، وإذ نتطلع للانتقال إلى أنظمة ديموقراطية، بحق وبضرورة وبأمل مستقبلى، أن ندرس تلك السيرورات فى مختلف البلدان، وأن نعى تاريخها بعمق وموضوعية منطلقة من حاجاتنا المستقبلية وعقائدنا الأخلاقية، حتى نتجنب الوقوع فى أخطاء الآخرين وفى أحابيل المتلاعبين بشعار الديموقراطية من أجل خدمة أنفسهم وخدمة أسيادهم.
ما يهمنا بالدرجة الأولى أن يعى شباب وشابات الأمة العربية الأهمية القصوى لطرح كل الأسئلة حول مكونات ومبادئ ومنهجيات الديموقراطية التى ننشدها. وهذا المنهج لا يعنى إطلاقا الشك أو التردد بشأن الأهمية القصوى للانتقال إلى نظام ديموقراطى غير مزيف وغير منافق وغير تغيير الثوب دون تغيير الجسد.
على الشابات والشباب أن يقرأوا كثيرا عن أدبيات هذا الموضوع ليناضلوا من أجل الديموقراطية التى يريدون. وهم بحاجة لأن يقيموا جبهة متناسقة مع قوى التحرر الحقيقى العالمية لدحر القوى الهائلة التى لا يروق لها وجود ديموقراطية حقيقية تمارسها الشعوب وترعى مصالح الشعوب. موضوع الديموقراطية هو محلى ووطنى وقومى وإنسانى يجمع أفضل ما فى التمثيلية والتشاركية والانتمائية.