يأتى توافق أعضاء مجلس الأمن على البرتغالى المخضرم أنطونيو غوتيريس، خلفا للأمين العام للأمم المتحدة الحالى بان كى مون، وسط تشنج فى العلاقات الأميركية – الروسية والأوروبية – الروسية بالذات فى موضوع سورية، وفى خضم تراجع سمعة الأمم المتحدة بسبب فشلها فى إيقاف المجزرة السورية وتملّصها من مبدأ المحاسبة على جرائم حرب.
يأتى انتخاب غوتيريس المرتقب لمنصب الأمين العام نوعا من توكيل الرجل الذى تولى ملف اللاجئين للسنوات العشر الماضية، بمعالجة هذا الملف بأدوات مختلفة عن تلك التى كانت لديه بصفته المفوض الأعلى للاجئين فى الأمم المتحدة من 2005 إلى 2015. فالرجل سياسى محنك لا بيروقراطى عادى، وهو يتسلم المنصب كأول أمين عام خدم سابقا كرئيس للوزراء. غوتيريس بدأ حياته السياسية فى سن الخامسة والعشرين عام 1974، بالانضمام إلى الحزب الاشتراكى البرتغالى، كان واضحا أن للرجل طموحات على الصعيد الدولى مرّت بمنصب المفوض الأعلى للاجئين ووصلت به الآن إلى منصب الأمين العام للأمم المتحدة. خبرته ومقدراته وحسن تنظيم حملته الانتخابية وجرأته على خوض المعركة على منصب يفترض أنه كان محجوزا هذه المرة لامرأة أو لمرشح من أوروبا الشرقية، أدت إلى اختياره للمنصب قفزا على الانتقادات له بأنه «اختلس» دور غيره. فالرجل الذى سيتولى إدارة منظمة الأمم المتحدة، إذا، ليس خامة مجهولة بل الكل يعرفه ويعتبره الشخصية الضرورية للأمم المتحدة فى هذا المنعطف. فكيف قد يتصرف أنطونيو غوتيريس وسط المهاترات الغربية – الروسية، وتراجع الشراكة الأميركية – الروسية، وبدء تململ الرأى العام العالمى من الصمت الرهيب على جرائم الحرب وقتل الأطفال فى حلب ومدن أخرى فى سورية؟
مؤشرات اليوم لا تفيد بإصلاح قريب للعلاقة الغربية – الروسية فى صدد سورية، لا سيما أن الحكومة الروسية عازمة على الاستمرار فى معركة حلب حتى النهاية بكل ما تنطوى عليه «النهاية». وبما أن روسيا أقحمت نفسها فى معركة مصيرية لها وليس فقط لسورية، وفى ضوء ما يتم تهيئته من «الخطة ب» التركية – الخليجية بمظلة أوروبية وبمباركة أميركية، تبدو المرحلة الآتية مليئة بالتعقيدات فى العلاقات الدولية وبالدموية الفاضحة فى نهج روسيا وحلفائها فى سورية بكلفة إنسانية صعب تجاهلها.
لن يكون سهلا على أنطونيو غوتيريس مواجهة الإعلام والرأى العام والحكومات بسياسة ضعيفة أو بتهرب من تحديات سورية. فلا هو قادر على مهاجمة روسيا وانتقادها على تجاوزاتها فى سورية بالذات فى مطلع عهده، ولا هو جاهز للتظاهر بأن لا شيء يحدث فى سورية. بالتالى، الأرجح أن يتناول غوتيريس ملف سورية من نافذة أزمة اللاجئين والمشردين والهاربين من القصف، وليس من باب جرائم الحرب.
سيحاول غوتيريس التركيز على إدخال المساعدات الإنسانية، الأمر الذى يتطلب هدنة عسكرية. سيسعى وراء انطلاقة سياسية جديدة قد تأخذ شكل تعيين بديل عن المبعوث الأممى الحالى ستيفان دى ميستورا، أو شكل الإبقاء عليه شرط تغيير أسلوبه القائم على أولوية إصلاح العلاقة الأميركية – الروسية.
الآن، بعدما ثار غضب كيرى وطفح كيل المؤسسة العسكرية الأميركية، بدأت الأمانة العامة تتجرأ وبادرت بريطانيا وفرنسا إلى طرح مشاريع القرارات والأفكار. بان كى مون أعلن أخيرا، أنه سيعيّن لجنة تقصى حقائق فى قصف القافلة الإنسانية فى ريف حلب. لجنة التحقيق المشتركة بين الأمم المتحدة ومنظمة حظر الأسلحة الكيماوية «جيم»، ستقدم تقريرها الرابع والأخير اختتاما لأعمالها، ويقال إن الأميركيين حضّروا مشروع قرار حول الخطوة التالية لنتائج التقارير المنتظرة. فرنسا مهّدت للتحرك فى مجلس الأمن فى مسألة استخدام السلاح الكيماوى على أساس أنها تتجاوز سورية وتطلب من مجلس الأمن مواجهتها من منطلق نظام منع انتشار أسلحة الدمار الشامل المحظورة. فرنسا هيّأت أيضا مشروع قرار فى مجلس الأمن يتناول الهدنة فى حلب وآلية المراقبة وإدخال المساعدات. وهذه التحركات كلها تلاقى معارضة روسية.
لماذا كل هذه الحركة فجأة؟ هناك رغبة فى التأثير فى إدارة أوباما قبل رحيلها كى لا يكون الوقت الضائع بين الانتخابات الرئاسية وبين تسلم الإدارة المقبلة مهماتها فعليا، فرصة لروسيا للتصرف بلا مراقبة أو عقاب استفادة من عدم القدرة على محاسبتها للأشهر الستة الآتية.
روسيا تراهن على الفترة الزمنية المتاحة، وفلاديمير بوتين يراهن على فوز المرشح الجمهورى دونالد ترامب الذى سيسايره ولن يتحداه فى سورية ولا فى غيرها. سورية ستدفع ثمنا باهظا فى الفترة الزمنية المعروفة بالوقت الضائع فى الرزنامة الأميركية، ما سيستدعى من الأمم المتحدة مواقف ضرورية.
هذه التركة التى لم تتحقق تتربص بالأمين العام الجديد أنطونيو غوتيريس. بادئ الأمر سينفذ غوتيريس تعهداته بما تم التفاوض عليه مع روسيا والصين والولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا قبل التوافق على ترشيحه فى توزيع للمناصب الكبرى المهمة كوكيل للأمين العام فى الدوائر الحيوية من المنظمة مثل الدائرة السياسية التى يترأسها الأميركى جفرى فلتمان وطالبت بها روسيا أقله لسحبها من الأميركيين وربما لإعادتها إلى بريطانيا تقليديا. إنما لاحقا، وقريبا جدا، ستلاحق سورية الأمين العام الجديد وسيكون عليه أن يبدأ بصنع تركته عندما يغادر المنصب بعد خمس سنوات ما لم يتم التجديد لولاية ثانية.