جوهري يا جوهري - سيد محمود - بوابة الشروق
الخميس 26 ديسمبر 2024 1:55 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

جوهري يا جوهري

نشر فى : الثلاثاء 8 نوفمبر 2022 - 8:30 م | آخر تحديث : الثلاثاء 8 نوفمبر 2022 - 8:30 م
كلنا نتذكر هتاف «جوهرى يا جوهرى» الذى كان عنوانا للشارع المصرى فى التسعينيات وتعبيرا شعبيا عن دعم مطلق لمنتخبنا القومى لكرة القدم خلال أداء مباريات كأس العالم، ١٩٩٠ لكن الجوهرى الذى أقصده بهتافى رجل آخر جاء إلينا من زمن العثمانيين، وأوجد لنفسه دورا فى عصرنا الحالى على نحو جعلنا نهتف بعد ندوة متميزة شاركت فيها (جوهرى يا جوهرى).
صحيح أن الندوة كانت علمية بكل المقاييس لكنها لم تكن خالية من الضحك والمنشطات العقلية التى أثارها النقاش حول كتاب مهم صدر بعنوان (المعلم إبراهيم جوهرى، سيرة قبطى من القرن الثامن عشر) وهو من تأليف د. مجدى جرجس أستاذ الوثائق بجامعة كفر الشيخ وإصدار دار المرايا للنشر.
وقد سعدت أولا لأنى شرفت بالجلوس على منصة واحدة إلى جوار إثنين من كبار أساتذة التاريخ العثمانى فى مصر وهما الدكتور نيللى حنا الأستاذ بالجامعة الأمريكية والدكتور محمد عفيفى الأستاذ بجامعة القاهرة والأمين العام السابق للمجلس الأعلى للثقافة وكنت من بين تلاميذه الذين تلقوا العلم على يديه فى بدايات عمله بالجامعة.
وثانيا: لأن الندوة أقيمت بالمعهد الفرنسى للآثار الشرقية وهو مكان له قيمته الرمزية لدى دارسى التاريخ والآثار والوثائق وعلوم المخطوطات إذ يعد إحدى أبرز منارات التبادل الثقافى وأخيرا لأن الندوة مست قضايا شائكة دون استعراض أو فذلكة أو تعصب على الرغم من أن موضوعها كان يغرى بذلك.
فالمعلم جوهرى بطل الكتاب عاش فى أواخر القرن الثامن عشر الميلادى، وهو ابن خياط قبطى، لكنه تدرج من ناسخ كتب إلى صراف ثم إلى كبير المباشرين، وهو منصب جعله المسئول الاول عن مالية مصر خلال فترة كانت حافلة بالاضطرابات التى تغرى بالسقوط فى مستنقع الفساد.
خدم جوهرى مع على بك الكبير وإبراهيم بك ومراد بك ودفع ثمنا كبيرا لإخلاصه وأمانته، وتمكن من إعادة إنتاج نفسه فى المناصب العليا رغم التقلبات، وقدم مثالا فريدا لحكمة رجل الدولة وفقا لمعايير عصره، وكون ثروة هائلة مع شقيقه جرجس كرسها بالكامل لخدمة العلم والكنيسة ولعمل الخير دون أن يقتصر فى العطاء على طائفته حيث امتد ليشمل فقراء المسلمين لذلك أفرد عبدالرحمن الجبرتى صفحة كاملة وصف فيها سيرته ومشهد وداعه الذى كان مهيبا.
وبسبب دوره البارز أطلقوا عليه لقب «كبير الأراخنة»، وأحيانا «سلطان القبط»، وأقدمت الكنيسة فى العام ١٩٥١ على وضع اسمه ضمن الشهداء والقديسين فى الكتاب المعروف باسم (السنكسار).
وهو إجراء استثنائى شمله وقلة من المدنيين الذين ضمهم هذا الكتاب الذى يقتصر فى العادة على رجال الدين والقديسين.
كذلك كانت الندوة فرصة لأن نحظى بنقاش علمى متفرد حول حالة مبدعة فى تاريخ مصر، وطرحت تساؤلات غاية فى الجدية حول كيفية كتابة تاريخ الأقباط والحاجة إلى التوسع فى كتابة تاريخ البشر العاديين خارج المركز والقادمين من الهامش.
وبطبيعة الحال كان السؤال الأهم حول فرص الحصول على وثائق تعين الباحثين على كتابة هذا التاريخ فالحاصل أن غالبية مؤسسات الدولة بما فيها المؤسسات الدينية لا تسمح بإتاحة ارشيفها امام الباحثين ولا تقدمه إلى دار الوثائق بما يضمن ترميمه وفهرسته، ثم تنظيم عملية الاطلاع عليه لدراسة موضوعات جديدة تغنى البحث التاريخى.
ويعرف المتخصصون الطفرة التى حدثت فى دراسة تاريخ مصر منذ اتيحت ارشيفات المحاكم الشرعية امام الباحثين فى الستينيات وبفضلها ظهرت أسماء وموضوعات جديدة وضعت على عاتقها مهمة إعادة كتابة تاريخ مصر الاجتماعى والثقافى والاقتصادى وصححت الكثير من الأحكام حول الحقبة العثمانية وأدخلت موضوعات إلى دوائر البحث لم تكن مطروقة من قبل وسبقت الكثير مما يقدم اليوم تحت عناوين براقة عن التاريخ من أسفل أو تاريخ المهمشين.
ويأمل المهتمون بكتابة التاريخ القبطى أن يشملهم البابا تواضروس بالرعاية ويقدم لهم تسهيلات تشبه ما حظى به مجدى جرجس ليكتب هذا الكتاب المهم.
لكن من الظلم أيضا ربط قيمة كتاب مجدى جرجس بما احتوى عليه من وثائق لأن الأهمية جاءت من طريقة القراءة ومنهجية التحقق والقدرة المذهلة على وضع فرضيات حول تاريخ الشخصية وجعلها مدخلا لتناول المجتمع وهو فى حالة فوران سياسى وكذلك النظر لبطل السيرة كعينة تمثيلية لشريحة من الأقباط كانت تمثل الطائفة لدى الدولة بعيدا عن دور الكنيسة إذ يؤمن المؤلف أن غالبية المشكلات التى عانى منها الأقباط فى بعض الفترات جاءت من الإصرار على تمثيلهم امام الدولة من خلال الكنيسة وليس عبر كيانات مدنية اخرى أو عن طريق شخصيات قبطية اعتبارية تماثل المعلم جوهرى الذى يبقى كما يقولون (نسيج وحده) نحتاج إلى تأمله واعادة انتاج من يماثله فى عصرنا والى أن يحدث ذلك ينبغى ألا تتوقف عن الهتاف كمن يطلب المدد (جوهرى يا جوهرى).