كسر الاستعصاء السورى - سمير العيطة - بوابة الشروق
السبت 14 ديسمبر 2024 5:35 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

كسر الاستعصاء السورى

نشر فى : الإثنين 9 يناير 2023 - 3:40 م | آخر تحديث : الإثنين 9 يناير 2023 - 3:40 م

لقد أحدث تسارع خطوات، تبدو «تصالحيّة»، بين السلطات التركيّة والسوريّة بلبلةً كبيرة غير مفاجئة فى الأوساط السوريّة. بلبلةٌ لدى كافّة الأطراف الشعبيّة، كلهم له أسبابه المختلفة، مما قد تعنيه هكذا «مصالحة» على مستقبلهم، وقلقٌ يتعاظم فى أوساط الفصائل «المعارضة» فى الشمال الغربى وكذلك لدى «قوّات سوريا الديموقراطيّة» (قسد) التى تهيمن على الشمال الشرقى.
فتركيا كانت منذ بداية الصراع هى الحامى والضامن لأغلب من فرّ من قمع السلطة القائمة فى دمشق وكذلك لمن عمل حثيثا بهدف رحيلها، مهما كانت توجّهاته ووسائله. وهناك حوالى أربعة ملايين سورى وسورية فى تركيا اليوم وكذلك مثلهم تقريبا من المقيمين والنازحين فى ريفى إدلب وحلب. وتركيا تدعم هناك «فصائل عسكريّة» مختلفة ويتواجد مئات من عناصر الجيش التركى. هكذا تبدو «المصالحة» بين الرئيسين أردوغان والأسد وكأنّها تخلّى عن جميع هؤلاء وتركهم لمصيرٍ مجهول، بما فيه ما يخصّ «إعادة اللاجئين». ويتصاعد هذا القلق مع اقتراب موعد تجديد قرار مجلس الأمن حول ممرّ المساعدات الإنسانيّة إلى منطقة إدلب.
بالنسبة لـ«قسد»، تختلف أسباب القلق، لارتباطها بالتهديدات التركيّة بعمليّة عسكريّة، قد تصبح مشتركة مع الجيش السورى، ضدّ «الإرهاب» و«حزب العمّال الكردستانى»، كما لمّحت التصريحات حول اللقاءات العسكريّة ــ الأمنيّة التركيّة ــ السوريّة ــ الروسيّة. رغم أنّ هذا القلق أقلّ حدّةً لأنّ الضامن هو فى هذه الحالة الولايات المتحدة. بل إنّه أقلّ من القلق الذى كان قائما منذ فترةٍ قريبة عندما هدّدت تركيا بعملٍ عسكرى جديد ووشيك أحادى الجانب.
بالمقابل، تكسِر هذه الخطوات الاستعصاء القائم فى الأوضاع السوريّة والآخذ مع الزمن إلى تقسيمٍ فعلى للبلاد. فمسار مفاوضات جنيف برعاية الأمم المتحدة لا يشير إلى أى تقدّم، والمفاوضات بين السلطات السوريّة و«قسد» ليست أفضل حالا. فتبدو الأمور وكأنّها «استعصاء مكسيكى» ثلاثى الأطراف لا حلّ له. لأنّ من يجرؤ على المبادرة قد يكون فى النهاية هو الخاسر الأكبر. سواء إن نظرنا لهذا الاستعصاء من وجهة نظر الأطراف السوريّة أو الأطراف الدوليّة والإقليميّة اللاعبة.
• • •
بالطبع، هناك أسباب انتخابيّة آنيّة للمبادرة التركيّة فى كسر الاستعصاء، لكن لها أيضا أسبابٌ أكثر عُمقا ضمن تموضع تركيا فى الصراع بين روسيا و«الغرب»، وكذلك بين «الغرب» وإيران، بل أعمق من ذلك فى التخوّف من أن يؤدّى تقسيم سوريا إلى تقسيم تركيا ذاتها. لكن فى جميع هذه الأحوال، يفتح كسر الاستعصاء هذا نافذةً لجميع الأطراف لإعادة تقييم مواقفها بنفس الدرجة من الحذر عبر تبنّى الآليّة التدريجيّة التى تأتى بها «المصالحة» المذكورة.
المعنى الأوّل هو «قسد» و«إدارتها الذاتيّة». صحيحٌ أنّ أيّا من الأطراف لن يجرؤ على الدخول فى صدامٍ مباشر مع القوّات الأمريكيّة. لكنّ بقاء هذه القوّات ليس مضمونا على المدى البعيد. بالتالى، يشكّل وجودها اليوم فقط فرصةً أفضل لتفاوضٍ جدى بين السوريين لما يهمّ أكراد سوريا إذا بقى هدف «تنظيماتهم» هو بقاء أرض سوريا وشعبها موحّدين. لأنّ هذا الهدف لا يُمكِن أن يعنى استمرار «قسد» كقوّة عسكريّة منفرِدة غير مندمِجة مستقبلا فى الجيش السورى ولا فتح «الإدارة الذاتيّة» بعثات «دبلوماسيّة» مستقلّة لها فى الخارج.
والمعنى الثانى هو أطياف «المعارضة السوريّة». هنا أيضا صحيحٌ أنّ الدولة السوريّة ليست قادرة اليوم على احتواء مناطق الشمال الغربى اجتماعيا واقتصاديّا وليست قادرة على احتواء اللاجئين واللاجئات إن عادوا، ليس فقط فى ميدانى الصحّة والتعليم، بل أيضا بالضرورات الأساسيّة من غذاء وكهرباء ووقود. وصحيحٌ أيضا أنّه لا يُمكِن توقّع معركة عسكريّة مكلِفة جدّا مع «الجيش الوطنى» المعارِض أو «هيئة تحرير الشام». إذ إنّ الأوضاع حتّى فى الجنوب السورى، حوران وجبل العرب، وإن كانت اليوم «اسميّا» تحت سيطرة الدولة فهى لم تنتُج عن انتصارٍ عسكرى وإنّما عن تفاوضٍ، وهى اليوم تُبقى استقلاليّة كبيرة للفعاليّات والحراك المحليّين.
بالتالى تعى السلطة السوريّة تماما أنّه لا يُمكن العودة إلى ما قبل 2011 وأنّ الخروج من الاستعصاء الحالى يتطلّب تغييرا جذريّا فى النهج والممارسة. كما تعى أنّ السلطة التركيّة لن تتقارب معها دون مقابل. لكن تسارع خطوات «المصالحة» التركيّة ــ السوريّة يفتح فرصةً للتفكير العقلانى والسياسى على الطرف الآخر أنّه إذا كان الهدف هو بقاء سوريا فيعنى هذا الخروج عن أوهام «إسقاط النظام بكافّة رموزه وأركانه»، وأنّ الحلّ السياسى المستنِد على قرار مجلس الأمن رقم 2254 يعنى بالضبط تفاوضا مع هذا «النظام» وتحقيق بعض مطالب الشعب السورى وردّ كرامته التى هدرتها سنوات الصراع. والفرصة أكبر اليوم فى هذا التفاوض إن جرى بالتزامن مع التفاوض التركى، لا استجداءً لتركيا كى تعود عن «المصالحة».
ومثلما كان الصراع الذى أخذ سوريا والسوريين والسوريّات إلى الاستعصاء طويلا ومرهقا، لن تأتى خطوات الخروج منه إلاّ مع الزمن وبشكلٍ تدريجى. وهنا يُمكِن أن تشكِّل إعادة توحيد سوريا اقتصاديّا واجتماعيّا، وفتح المعابر للبضائع والأفراد دون الحاجة للتهريب ومافياته، خطوةً أولى تخفّف معاناة الشعب السورى وتعيد التواصل بينهم. لكنّ التساؤلات الأساسيّة تبقى فى ماهيّة المبادرات التى يُمكِن أن تأخذها «الإدارة الذاتيّة» من جهتها، و«المعارضة السوريّة»، الممثّلة بـ«هيئة التفاوض»، من الجهة الأخرى..
• • •
هناك تساؤلٌ رئيسى عن المبادرة التى يُمكِن أن تقوم بها الأمم المتحدة، راعية مفاوضات جنيف، فى هذا السياق.. لقد أثبتت الوقائع أنّ مفاوضات أستانة كانت أكثر فعاليّةً من مفاوضات جنيف. لأنّ الأولى اعتمدت على أكثر القوى تأثيرا على الأرض وعلى الصراع المسلّح: روسيا وتركيا وإيران. ولأنّ الثانية جعلت التفاوض السورى بين طرفين فقط وليس ثلاثة كما هو الواقع على الأرض. لكنّ هذا لا يمنع قدرة الأمم المتحدة والمبعوث الدولى على المبادرة تزامنا مع تسارع «المصالحة». بل ضرورة هكذا مبادرة لرعاية توافقات بين السوريين وبين الدول، دول أستانة والغرب.
كذلك هناك تساؤل وضرورة أن تبادر الدول العربيّة، وخاصّة المملكة العربيّة السعودية ومصر، فى سياق تسارع «المصالحة» التركية ــ السورية، لأنّها يُمكِن أن تخلق توازنا يُطمئِن الأطراف السوريّة المختلفة.
هذا كلّه ليس سهلا، خاصّةً وأنّ هناك من يدعو لنقل الصراع فى أوكرانيا وعليها إلى سوريا وإعادة الأوضاع إلى الحرب المفتوحة، بغية هزيمة روسيا أوّلا فى سوريا. لكنّ عودة الحرب ستكون جريمة جديدة بحقّ السوريين والسوريّات. وجريمةٌ أيضا الإبقاء على الاستعصاء القائم وموت الناس... جوعا وقهرا.

اشترك في كتابة المقال الكاتب زيدون الزعبى
مدرب في الحوكمة وبناء السلام

سمير العيطة رئيس التحرير السابق للوموند ديبلوماتيك النشرة العربية ــ ورئيس منتدى الاقتصاديين العرب
التعليقات