لا بد من الاعتراف بأننا فى زمن اختلت فيه الموازين، وارتبكت المعايير بصورة مرعبة! الفوضى تحاصرنا من كل جانب ولم يعد من الممكن السيطرة على أى شىء فى كل المجالات! لا بأس. المشكلة الكبرى ليست فى طوفان الكتب والروايات التى باتت تصدر بالآلاف؛ أبدًا. المشكلة الحقيقية فى محدودية الوعى وسذاجة التصورات التى تجعل من كثيرين ــ لمجرد أنهم أصدروا كتابا أو أكثر ــ يتجرأون على الادعاء بأنهم «كتاب» وأنهم «روائيون»!
نعم. نحن الآن نعيش وسط حياة تغشاها الرتابة والألم والملل والتفاهة، وتتكاثر الكائنات الكتابية العشوائية المحمولة على سطحية الرؤى وتفكك البنى وضحالة الأنماط الأسلوبية، وهشاشة السرديات العادية، كما كتب محقا الصديق والكاتب الكبير نبيل عبدالفتاح.
أكاد أزعم الآن أن أكثر من خمسة وتسعين فى المائة مما تخرجه المطابع وتقذفه علينا، خاصة من دور النشر التجارية الرديئة، لا علاقة له لا بالفن ولا بالرواية ولا الكتابة ولا أى شىء! مجرد ثرثرة فارغة وكلام فارغ يكفى أن تقرأ الصفحات الأولى فتكتشف كمّ التفاهة والضحالة وفقر التعبير وجفاف الروح وتشوش الأفكار واضطراب الملكة اللغوية بصورة مرعبة. هذه كتابة «مصطنعة»، «زائفة»، «رديئة»، لا يمكن أبدا أن تكون «حقيقية» أو نابعة من تجربة إبداعية صادقة أو معاناة إنسانية حقيقية.
المصيبة أنك إذا واجهت بعضهم برأيك، وحاولت أن تكون رفيقا ومهذبا دون أن تتخلى عن ما تظنه الصدق والحقيقة، فإنهم يغضبون غضبا شديدا ويثورون بعنف، ويرفعون لافتات «الاضطهاد» و«المؤامرة»، وسوء نية النقاد وعدم التعاطف مع تجاربهم الجديدة التى لا يستطيع أحد أن يفهمها سواهم وسوى «أولتراساتهم» ممن يدعون أنهم قراؤهم، وهؤلاء مصيبة أخرى يطول فيها الكلام.
ستجد الكثير من هؤلاء لا يفهمون من فن الرواية إلا أنها أى كلام يرص بجانب بعضه البعض، ويحشون هذه الصفحات بكل تافه سخيف، بل إن الأمر يتطور لدى بعضهم وتتلبسه حالة من الاندماج، فيزعق فى «روايته»، ويقول لك هذه رواية سياسية تاريخية اجتماعية! وأنا أؤرخ للثورة فى السنوات الأخيرة! يا سلام.
الرواية ليست منشورًا سياسيًا زاعقًا، ولا منبرًا للوعظ والصراخ، ولا مقالًا سخيفًا يدعى أن غرضه التسجيل والتأريخ كى لا ننسى!! الرواية «فنّ» فى المقام الأول، عجينته الواقع ووسيلته الخيال، يجب أن تبتعد الرواية مسافات ومسافات عن النقل المباشر والمرآوى للواقع. البعض لا يفهم من الرواية سوى أنها مجرد «حامل» للأفكار وكراسة لتدوين الأحداث والوقائع التى جرت، وليست هى بحد ذاتها منتجة للأفكار أو أنها تشكيل جمالى فى المقام الأول!
للأسف إذا غاب الخيال وانتفت الغاية الجمالية من الكتابة، فلا رواية ولا فن، ستصبح أى شىء آخر غير الرواية!
لقد أصبح أمرًا مبتذلًا غاية الابتذال أن يفهم البعض (حتى من بين بعض الأسماء التى تم تكريسها على أنها من كبار الكتاب) من الفن عمومًا، ومن الرواية بخاصة أنها مجرد «شكل أصمّ» أو حامل «خام» للأفكار. أنها وسيط دعائى يمكن أن يتلون ويتشكل بحسب الغاية مما يريد هؤلاء أن يوصله، فتتحول هذه «الرواية» التى يدعون أنها «رواية» إلى منشور سياسى فج، مقال ثورى نضالى حماسى دعائى زاعق.. إنما أن تدعى أن هذا «فنّ» فلن أصدقك.
الفن أمر آخر وموضوع مختلف. الفن ليس هو ما ستقوله فقط، إنما كيف ستقوله؟ وبأى طريقة جمالية قررت أن تقول ما تريد، الفن بعيد عن هذه المباشرة والدعائية، والوعظ والخطابة بسنوات ضوئية..
كثير من هذه النصوص المتهافتة السخيفة تدعى أيضًا وطول الوقت أنها تقدم تأريخا سياسيا واجتماعيا.. إلخ
وهى ادعاءات محفوظة ومكررة، المشكلة الحقيقية ليست فى أن هذه «المحاولات الروائية» لتأريخ حقبة سياسية واجتماعية وثقافية ممتدة فى مصر قد تكررت بفجاجة فى عشرات من النصوص السابقة، إنما بالأساس فى أنها لم تقدم جديدًا على مستوى الرؤية والشكل.
أخشى أن أقول إن هذه النصوص منتهية الصلاحية هى نصوص درجة عاشرة من التى تحاصرنا الآن من كل جانب!
النص الروائى المبتكر، لا بد أن يكون حاملا لحيويته ونضارته وجدّته، كما يجب أن يحافظ على عناصر تشويقه الداخلية وإيقاعه الخاص، وأن يتجنب التكرار والجفاف والسرد الميكانيكى الرتيب..
وللحديث بقية..