لم يكن «توماس مالتس» متشائما حينما نظر إلى نمو السكان بمتوالية هندسية (2ــ4ــ8ــ16...) ونمو الموارد بمتوالية عددية (1ــ2ــ3...) فلم يجد بدا من وقوع الحروب والكوارث والمجاعات حتى يعود التوازن بين حاجات السكان المتزايدة وموارد الكرة الأرضية المحدودة. كان «مالتس» يراقب حركة التاريخ بعين الاقتصادى الدارس المتخصص، فلا يجد نشوزا عن تلك الحتمية التاريخية فى أى زمن، ويستنطق الأرقام بعين الرياضى البارع فلا يرى سوى فجوة متزايدة بين العرض والطلب لا يسدها إلا حدث عظيم أو مجموعة أحداث. تماما كما فعل «توماس بيكيتى» صاحب كتاب «رأس المال فى القرن الحادى والعشرين» عندما أكد بالدليل الإحصائى بعد ذلك بعقود تعاظم الفجوة بين الأغنياء والفقراء طالما بقى النظام الرأسمالى سائدا، لأن آليات عمل هذا النظام تدفع الثروة إلى التركّز فى يد عدد قليل من أصحاب رءوس الأموال فى فترات النمو الاقتصادى، ويزداد تركّزها فى فترات التباطؤ الاقتصادى، ويرى «بيكيتى» أنه لم يوقف النظام الرأسمالى عن تدمير ذاته عبر آليات عمله خلال العقود الماضية (كما توقّع كارل ماركس)، سوى الحروب والأزمات الاقتصادية الكبرى التى ساعدت على تخفيف حدة تراكم الثروة وتركّزها.
نحن إذن أمام مصير محتوم للكرة الأرضية وللنظم الاجتماعية والاقتصادية السائدة لا يؤجله إلا التطور العلمى والتكنولوجى الذى يعمل على تنمية الموارد بصورة غير مسبوقة، لكنه فى الوقت ذاته يطيل متوسط الأعمار، ويحسن الظروف الصحية، ويقلل الوفيات عند الولادة بمعدلات استثنائية، فلا ترتد المعادلة إلى وضع التوازن إلا عبر كارثة طبيعية مثل الزلازل والبراكين والتسونامى... أو كارثة بشرية مثل الحروب والنزاعات مصداقا لقوله تعالى «ولَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض».
***
تعيش البشرية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية أطول فترة من الاستقرار النسبى والرفاهية عبر التاريخ. فقد أسفرت الحرب العالمية الثانية وحدها عن مقتل 60 مليون إنسان كانوا يمثلون حينها 2,5% من تعداد سكان العالم! وقبلها بسنوات معدودة كانت حصيلة وفيات الحرب العالمية الأولى نحو 16 مليون حالة، ناهيك عن ظهور وباء الأنفلونزا الإسبانية عام 1918 الذى ربما ساهمت ظروف وتداعيات الحرب فى انتشاره ليسقط ضحيته نحو 50 مليون إنسان! هذا الاستقرار والسلام العالمى المستحدث كان له ثمنه وإن تعددت جوائزه. فبينما عطّل آلية عمل نظرية «مالتس» فى السكان، مستبدلا أبرز أدواتها للقتل الجماعى البشرى بحروب إقليمية ونزاعات أهلية محدودة الضحايا نسبيا، فإنه لم يعطّل نظرية «بيكيتى» فى استمرار اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء، إلى الحد الذى ينذر بخلل اجتماعى كبير فى مختلف دول العالم، سرعان ما يتحول التعبير عنه بصور عنيفة إلى آلية جديدة لإحداث التوازن بين الموارد والسكان. تظل الأوبئة والمجاعات والكوارث الطبيعية فاعلا رئيسا فى تحقيق ذلك التوازن الضرورى (المشئوم) على الرغم من تطور قدرات البشر فى السيطرة عليها والتنبؤ بها واحتواء تداعياتها.
كان الرعب الأكبر الذى يتوقاه الناس ويعبرون عنه بوسائل الإبداع المختلفة، هو ظهور وباء ينتشر بسهولة عبر الهواء والأسطح، يقتل ضحاياه فى أيام، ولا تردعه الأمصال أو المضادات الحيوية. ولأن فيروس «كورونا» تتحقق فيه تلك الخصائص، فقد أصيب الناس بالهلع، لكن المغالاة فى رد الفعل تجاه الأزمة ربما تجد له تفسيرا فى إدمان البشر لحياة الرفاهة والترف، التى تضفى رعبا أكثر من اللازم على مخاطر المرض والموت، فيما وصفه الرسول (صلى الله عليه وسلم) بـ«الوهن» وهو «حب الدنيا وكراهية الموت».
التداعيات الاقتصادية لهذا الهلع سوف تتجاوز كثيرا الآثار المباشرة للوباء نفسه، فهذا اتحاد النقل الجوى الدولى يتوقع خسائر تقترب من 113 مليار دولار لشركات الطيران وحدها نتيجة ارتباك حركة الملاحة الجوية بسبب الخوف من انتشار العدوى. وهذا تقرير لمؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد) يتوقع أن يخسر قطاع التصدير نحو 50 مليار دولار بسبب «كورونا»... ناهيك عن حالة الركود العالمى التى سوف تقترن بشكل مؤكد مع تراجع أسعار النفط وارتفاع أسعار الذهب وتوقف الكثير من المصانع عن العمل الأمر الذى رصدت وسائل الإعلام وجها له فى صورة تحسّن تاريخى فى الانبعاثات الكربونية الصادرة عن دولة الصين الأعلى تلوثا.
مخاطر العدوى الوبائية للفيروس، لا تقل خطورة عن مخاطر العدوى المالية التى سوف تنتشر بشكل سريع بين دول العالم من خلال قنوات نقل العدوى المعروفة وأبرزها: روابط التجارة الثنائية ومتعددة الأطراف، الروابط الائتمانية (سواء العدوى المباشرة أو أثر الطرف المقابل)، الروابط المالية، وتلك تتضمن: تدفق المعلومات، سلوك القطيع، السيولة، إعادة التوازن إلى الحافظة، اتصالات الإيقاظ، المطالبات المتداخلة، دائنو البنوك. وقد سبق تناول قنوات العدوى المالية فى مقال نشر هنا فى سبتمبر 2018، لكن التذكير بها فى سياق الأزمات بصفة عامة، وأزمة وباء «كورونا» بصفة خاصة أمر له وجاهته. ففى تاريخ ما بين الحربين العالميتين عدد من الأزمات التى اتسعت رقعة الإصابة بها بفعل قنوات العدوى المالية مثل أزمة الكساد الكبير والتى يؤرخ لها عادة بعام 1929 حيث نشأت فى صورة انهيار بورصة لندن، سرعان ما امتد إلى الولايات المتحدة الأمريكية، فرنسا، ألمانيا... ثم سائر بورصات أوروبا. أعقب ذلك أزمات مصرفية فى الولايات المتحدة وايطاليا والنمسا وألمانيا والنرويج، تلاه تعثر دول أخرى، فشهد عام 1931 تعثر بوليفيا، البرازيل، تشيلى، جمهورية الدومنيكان، إكوادور، بيرو. وبحلول عام 1933 تعثرت معظم دول أمريكا اللاتينية (باستثناء الأرجنتين)، وكثير من دول وسط أوروبا مثل: النمسا، بلغاريا، ألمانيا، اليونان، المجر، رومانيا ويوغوسلافيا.
لكن حالات التعثر التى انتقلت عبر أنماط تشبه العدوى بالأمراض لها تاريخ أقدم، ففى عام 1826 رصدت أول أزمة مديونية فى تاريخ أمريكا اللاتينية الحديث. فى ذلك العام تعثرت بيرو، أعقبها كولومبيا العظمى (التى كانت تضم كولومبيا وفنزويلا وبنما وإكوادور وشمال البرازيل وشمال بيرو..) وبحلول عام 1828 انتقلت عدوى التعثر إلى سائر دول أمريكا اللاتينية باستثناء البرازيل. كذلك فترة الركود العالمى التى امتدت بين عامى 1873 و1879 بدأت بانهيار البورصتين الألمانية والنمساوية فى مايو 1873 ثم سرعان ما انتقلت إلى إيطاليا وهولندا وبلجيكا ثم تعبر الأطلسى فى سبتمبر وتقفل عائدة لتضرب أسواق انجلترا وفرنسا وروسيا، وبحلول عام 1876 تعثرت الإمبراطورية العثمانية ومصر واليونان وثمانى دول من أمريكا اللاتينية!
***
لنا أن نتخيل اليوم كيف كان الاعتماد طويلا على دولة الصين فى توفير الكثير من المنتجات المصنعة بكفاءة اقتصادية أعلى «نسبيا» سببا فى سهولة انتقال عدوى الصين «الاقتصادية» إلى سائر دول العالم. فكلما ازدادت التشابكات المالية والتجارية والنقدية للدولة المصابة مع أكبر عدد من الدول، كلما كانت أكثر قدرة على نقل عدوى الأزمة إلى الاقتصاد العالمى فى مجمله. وإذا كان بعض مراهقى علم الاقتصاد لا يرون سببا فى الإنتاج المحلى للسلع التى أتقنت الصين صناعتها لأنها حتما (ومع حرية التجارة البينية) سوف تؤدى إلى هزيمة المنتج المحلى! فإن «كورونا» وتداعيات إغلاق المصانع وموانئ التجارة تعطى مثالا واحدا على أهمية توافر الحد الأدنى من التصنيع المحلى، لسد حاجات المواطنين الأساسية حال توقّف الاستيراد حتى وإن انعدمت المزايا «المطلقة» absolute advantage للدولة فى أى عملية تصنيعية، وإلا ما الحاجة إذن إلى تطور مفهوم الميزة النسبية comparative advantage عند ريكاردو؟! أو الميزة التنافسية competitive advantage فى نظريات ومدارس الاقتصاد الدولى عبر عقود؟! تلك البديهيات يعجب المرء كيف يكون فى حاجة إلى الخوض فيها بعدما بلغته البشرية من تطور وتراكم معرفى! اللجوء إلى الذهب كملاذ آمن هو مظهر من مظاهر الأزمة التى لا يعرف مستقرها إلا الله، لكن وحده «مالتس» يبتسم فى قبره اليوم لأن نظريته التى قوبلت بالإنكار تارة وبالرفض والمقاومة تارة، تتحقق بشكل ساخر، إذ نرى البشر يهرعون إلى قبورهم ويتوقعون سيناريوهات لنهاية العالم على الرغم من محاولاتهم المستميتة لتأخير هذا المصير!