عشت فى القاهرة مرحلتى الطفولة والمراهقة وبعضا بسيطا من مرحلة شبابى وجل مرحلة الكهولة. ارتحت لها، وأقصد القاهرة كمدينة ومحل إقامة، وأظن أنها ارتاحت لوجودى فيها. أحن إليها وأنا فيها وأحن إليها وأنا بعيد عنها. القاهرة ومدن عديدة، بالعيش فيها، نجحنا فى أن نصنع معا سيرا تستحق أن تروى. مدن أخرى لم نفلح إلا فى إقامة علاقات عابرة . كلانا، كما اكتشفنا لاحقا، كان لديه الكثير من الظنون والشكوك حول الظروف التى جمعتنا وتلك التى فرقتنا.
• • •
نشأت على يد رجل يعشق الحركة والتجول فى أنحاء القاهرة، المدينة التى ولد ونشأ وتزوج فيها وأنجب أولاده الأربعة وأنا ثالثهم. أكاد لا أذكر يوم جمعة قضاه الوالد إلا ممسكا بيدى نقطع الطرق مشيا من حى فى القاهرة إلى حى آخر. بل أذكر رحلات قمنا بها معا وأنا ما زلت دون العاشرة نجوب مدنا مثل الإسكندرية وكفر الشيخ وبنها وبنى سويف والمنيا والفيوم. نصلى الجمعة فى أهم مساجدها وفى مقدمتها المساجد ذات التاريخ، تاريخ ساكنيها من الأولياء أو تاريخها فى حروب المماليك والفرنسيين وغيرهم من الغزاة والحكام، أو تاريخها فى ثورة سعد زغلول ورفاقه.. بعد الصلاة نزور المواقع الأثرية وبعد الغداء نتمشى على الكورنيش والشوارع الأنيقة حيثما وجدت. من حسن حظه وحظى أن تكليفات دورية كانت تصدر إليه من رؤسائه للتفتيش فى عواصم المحافظات على سير العمل فى المصالح التابعة للوزارة التى كان يعمل فيها.
• • •
حرص الوالد منذ أول سنة دراسية على أن أنضم لفريق الكشافة فى مدرستى الابتدائية ثم الثانوية وألا أتخلف عن المشاركة فى أى رحلة للفريق أو فى غيرها من الرحلات المدرسية. وبالفعل أظن أنه لم تفتنى رحلة واحدة. عندما تركت المرحلة الثانوية كنت قد اشتركت فى معسكرات أقيمت فى الأقصر وأسوان ثلاث أو أربع مرات وبالرحلات المدرسية والعائلية زرت العريش وبورسعيد والسويس
ومختلف مدن وبعض قرى وسط الدلتا والزقازيق والمنصورة والقرى القريبة من كل منهما. وعندما تركت الجامعة كنت قد زرت من المدن على طول الساحل الليبى طبرق وطرابلس الغرب وما بينهما، ومن المدن السودانية الخرطوم وأم درمان والأبيض عاصمة وعروس كردفان وغيرها من مدن فى الجزيرة والجنوب والشرق حتى بورسودان، ومن مدن فلسطين أقمنا معسكرا فى غزة، أقربها فى الجغرافيا وإلى القلب.
• • •
تخرجت والتحقت بالسلك الدبلوماسى ليبدأ موسم الرحلات العظمى. بدأ برحلة نيودلهى وفى الطريق إليها أقمت أياما، مجبرا أى غير مخير، فى بيروت، المدينة التى أعرف أنها لم تمل من رؤيتى واستقبالى واحتضانى ولا من صحبتى الطويلة أحيانا على امتداد أكثر من ستين سنة. عدت إليها بعد أقل من عام لنحصل أنا وزوجتى لزواجنا على مزيد ضرورى من الشرعية توفرها لنا قيادات الطريقة الشاذلية فى جبل لبنان.
أقر فورا وأعترف أننى بادلت بيروت حبا لم أتبادل فى مثل صدقه ودفئه وديمومته حبا لمدينة أخرى فى العالم، غير القاهرة طبعا. الحديث عن بيروت يطول ويعجز الحيز المتاح لى فى هذه الصفحة عن نقله ويعجز القلب عن استيعاب ما طرأ علينا، بيروت وأنا والعلاقة بيننا، فى السنوات الأخيرة من تحولات فى الشكل وفى الجوهر. كلانا الآن يخشى من تداعيات صدمة يتسبب فيها لقاء أخير، ولعله بين ما يفسر تباعدنا المتعمد.
• • •
توقفت طائرتنا فى الكويت فى طريقها إلى الهند. كان أيضا اللقاء الأول بيننا، ولم يكن شافيا ولا مريحا. أتحدث عن رحلة فى منتصف القرن الماضى. وصلنا أوائل الليل فأنزلونا فى فندق هواؤه غير مكيف وغادرنا أوائل النهار. عدت مرارا إلى الكويت ضيفا على مؤتمرات أقمت من خلالها صداقات معمرة تطورت وتعمقت فى بيروت وجبل لبنان وفى القاهرة.
رأيت بومباى، قبل أن يعيدوا لها اسما كان لها قبل وصول موظفى وجنود شركة الهند الشرقية، رأيتها أولا من الطائرة. كان أول ما رأيت لأتفاءل «كورنيش» وبحر. لم يطل تفاؤلي. تجولت فى المدينة، وبدقة أكثر، تجاسرت فرحت أغوص فى عمق آسيا. مشيت كثيرا مع والدى وبدونه فى شوارع مصرية مزدحمة، مشيت فى الموسكى والصاغة والغورية فى القاهرة الفاطمية وفى زنقة الستات فى منشية الإسكندرية، الزحام فيها جميعا غير زحام السوق فى بومباى. الزحام فى أسواق بومباى ودلهى وكلكتا ورانجون وبانجكوك وفى كولومبو يختلف فى كل المعانى عن الزحام فى الأسواق العربية التى مشيتها رائحا غاديا مرارا وتكرارا. زحام السوق العربية فى تونس والرباط والدار البيضاء وأسواق القصبة فى الجزائر يختلف عن أى زحام آخر، فللزحام الآسيوى فى ذلك الوقت نكهة خاصة ولكن متفردة ورائحة لا تجارى.
خرجت من جولاتى فى الأسواق الشعبية، عربية كانت أم آسيوية، باقتناع ربما سبقنى إليه غيرى. هناك فى هذه الأسواق يستطيع المؤرخ أن يمتحن معلوماته عن تاريخ شعب، ويستطيع عالم الاجتماع السياسى أن يحكم باطمئنان على عدل أو ظلم الحاكم وعماله، ويستطيع عالم الأخلاق والفيلسوف أن يتعرف على، أو يجدد ما وصل إليه أسلافه من معلومات عن، حال السعادة فى البلد.
• • •
كان حلما وتحقق. كنت أحلم بيوم تسمح فيه ظروفى أن أرى بنفسى وليس عن طريق كتاب أو ألبوم صور كيف كان يعيش ممثلو جلالة إمبراطورة بريطانيا العظمى فى الهند، جوهرة إمبراطوريتها. تحقق نصف الحلم بوجودى جسديا وروحيا فى نيودلهى الضاحية التى تحولت على يد ممثل الإمبراطورة إلى عاصمة شتوية ومركز للحكم. بقى لى أن أسعى لأتعرف على العاصمة الصيفية للحاكم الإنجليزى فى سيملا، وأحيانا تكتب شيملا. تحقق نصف الحلم حين انتهزت فرصة إجازة قصيرة فانتقلت قاصدا منتجع ماسورى على سفوح الهمالايا مستخدما حافلات هالكة وسائقين شهدت لهم بالمهارة ولنفسى بالتهور.
تركت نيودلهى ودرجة حرارتها تناهز الأربعين فما فوق وصلت سفوح الهمالايا ودرجة حرارتها فى ذلك اليوم تتراوح بين الصفر والخمسة. أذكر جيدا أننا توقفنا لبعض الوقت فى مدينة دهرادون فى الوادى الصاعد نحو ماسورى وما بعدها. مدينة لا يستطيع الزائر للهند إلا أن يقارنها بعشرات بل ومئات المدن الهندية المتناثرة على امتداد شبه القارة الهندية، كلها متشابهة فى الفقر والملبس وإن اختلفت فى اللغة والدين. كنت فى الهند فى الخمسينيات من القرن الماضى والسؤال نفسه الذى سألت وظل يتكرر، ألم تحاول أى من الإمبراطوريتين المغولية والبريطانية تحسين أحوال هؤلاء الناس، أم حاولتا وفشلتا؟
• • •
نسيت الكثير ولكنى لم أنس منظرا فى مدينة أخرى من أشهر مدن الهند لم نقض فيها إلا ساعات معدودة. هى كلكتا عاصمة البنغال الغربية، واسمها الآن كولكاتا نسبة إلى كاليكاتا إحدى القرى القديمة التى أقيمت عليها عاصمة الإمبراطورية. وصلتها عصر يوم فكانت فرصة أن أرى المدينة التى كثيرا ما سمعت وقرأت عنها فهى مسقط رأس الشاعر طاغور الحاصل على جائزة نوبل فى الأدب. أسستها شركة الهند الشرقية وكانت عاصمة للهند البريطانية حتى عام 1911. اشتهرت بصفات البهجة والمرح وما تزال حتى الآن العاصمة الثقافية للهند. حملتنا السيارة من المطار إلى شارع أوروبى الهندسة والمحلات التجارية والفنادق الكبرى وإحدها كان الفندق الذى كان مقررا المبيت فيه حتى ساعة مبكرة من اليوم التالي. عند العصر انتهزنا فرصة انكسار الشمس فخرجنا إلى الطريق نتجول فيه وشربنا الشاى فى أحد مقاهيه الفخمة. عدنا إلى الفندق مبكرا للعشاء والنوم استعدادا لمغادرته فى فجر اليوم التالى. عند الرحيل خرجنا إلى الطريق ومعنا حقائبنا لنجد الرصيف على ناحيتى الطريق مرصوصا بمئات أو آلاف الأفراد النائمين، عائلات بلا مأوى اختارت أرقى طريق فى المدينة لتقضى الليل على جنباته. انتابنى شعور معذب لم يختف تماما ربما حتى ساعة كتابة هذه السطور. شعور له سمات أيديولوجية راود، ويراود، كل من اختار الدبلوماسية مهنة ومستقبلا.