بعد مخاض عسير، أفصحت الانتخابات الأمريكية التاسعة والخمسين عن مكنوناتها باقتناص المرشح الديمقراطى جو بايدن فوزا ثمينا يتوجه سيدا سادسا وأربعين للبيت الأبيض. ومن رحم الجدل المحتدم حول تداعيات ذلك الخطب الجلل، تنبلج التساؤلات بشأن تداعياته على العلاقات التركية الأمريكية، وانعكاساته المتوقعة على توجهات وسياسات الرئيس إردوغان، الذى طالما راهن على علاقات خاصة وشائكة مع الرئيس الجمهورى المنتهية ولايته، أسهمت ــ إلى حد كبير ــ فى تمديد الصبر الأمريكى على معاقبة تركيا بجريرة خروقاتها المتنوعة، ما بين انتهاكها للديمقراطية وحقوق الإنسان، مرورا بتوالى مغامرات إردوغان العسكرية الخارجية، وتهديده أصدقاء واشنطن الكرد فى سوريا، وابتزاز حلفائها الأوربيين بورقة اللاجئين والمهاجرين، واعتدائه على الحقوق البحرية لشركائها المتوسطيين فى قبرص واليونان، وصولا إلى تحدى الناتو بإتمام صفقة صواريخ «إس 400» الروسية، وتسلمها واختبارها.
شأنه شأن ساسة ديمقراطيين كثر، لا يستسيغ الرئيس الأمريكى الجديد سياسات إردوغان، كما تتعثر الكيمياء السياسية بينهما، إذ اضطر بايدن فيما مضى للاعتذار منه وبلاده مرتين، كانت أولاهما عام 2014، إثر إطلاقه تصريحات طوت اتهاما ضمنيا لأنقرة بتشجيع انتقال المقاتلين الأجانب إلى سوريا والتنسيق مع تنظيم القاعدة. وثانيتهما عام 2016، جراء تقاعس واشنطن عن إعلان دعمها لإردوغان إبان المحاولة الانقلابية المسرحية الفاشلة،التى اتهم الأخير الديمقراطيين بالتورط فيها عبر الإصرار على إيواء مهندسها المفترض فتح الله كولن. كذلك، ألمح بايدن، المعروف بتعاطفه مع الأكراد،وقربه من اللوبى اليونانى بالولايات المتحدة، كما هو الحال مع غالبية الساسة الديمقراطيين، إلى حاجة بلاده الماسة إلى العمل بفيض جدية مع الحلفاء لتقويض السياسات العدوانية لإردوغان، خاصة فى شرق المتوسط. وفى مستهل حملته الانتخابية، أطلق بايدن، غير مرة، تصريحات مقلقة لإردوغان. ففى مقابلة مع صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية فى ديسمبر 2019، أكد على ضرورة مؤازرة واشنطن للمعارضة التركية حتى تتمكن من الإطاحة بإردوغان، الذى نعته بـ«المستبد»، مهددا إياه بضرورة دفع ثمن سياساته التصادمية ومواقفه الاستفزازية.
وخلافا لترامب، الذى غض الطرف عن انتهاك إردوغان لمبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان،لا يستبعد خبراء استئناف وزارة الخارجية الأمريكية والبيت الأبيض فى عهد بايدن، إحاطاتهما اليومية وأن يعلق المتحدثان باسمهما على القضايا المثارة، بما فيها سجل تركيا الديمقراطى والحقوقى. وبينما انبرى ترامب فى مساندة تركيا بقضية «بنك خلق»، الضالع فى تمويل مؤسسة ترامب، والمتهم فى ذات الوقت بخرق العقوبات الأمريكية على إيران بإيعاز من أعضاء فى نظام إردوغان وعائلته، حيث أكدت تقارير لصحيفة «نيويورك تايمز» ممارسة العديد من مسئولى وزارة العدل، بمن فيهم المدعى العام بيل بار، ضغوطا جمة على المدعين العامين بالقضية للحيلولة دون إصدار قرار الإدانة، من المرجح أن يحرر بايدن حال تسلمه مهامه الرئاسية، المسارات التشريعية والقضائية الأمريكية من أية قيود فيما يتصل بنظر تلك القضية. وفى حين سبق للحزب الديمقراطى انتقاد أنقرة لشنها عمليات عسكرية فى شمالى العراق وسوريا واستحواذها على أراض كانت تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية، يتوقع مراقبون مناهضة بايدن لخروقات إردوغان بالشام والعراق وشمال إفريقيا وشرق المتوسط وكاراباخ، وأن يقوم بتفعيل قانون «كاتسا»، لمعاقبة تركيا على صفقة «إس 400» الصاروخية الروسية، بما يتيح حظر تصدير الأسلحة الأمريكية إلى أنقرة، فيما توقع نيكولاس بيرنز، أحد أقرب المستشارين السياسيين لبايدن، أن يوسع الأخير حيز التعاون الاستراتيجى بين واشنطن وكل من قبرص واليونان.
فى مواجهة التربص المبكر من قبل بايدن، يتحصن إردوغان المتظاهر برباطة الجأش والجهوزية للتعامل مع أية إدارة أمريكية، بأوراق قوة لا يمكن تجاهلها. فإضافة إلى براعته فى توظيف مزيج الاندفاعات الدينية والحماسات القومية الطورانية المناهضة لأمريكا، تتجلى عضوية تركيا بالحلف الأطلسى وموقعها الجيوسياسى الحيوى، الذى يعزز دورها فى أمن الطاقة العالمى، كما يفاقم من أهمية قاعدة انجرليك العسكرية للناتو، فيما تعى الإدارات الأمريكية المتعاقبة، أيا كانت مرجعياتها السياسية، أن الإمعان فى معاقبة تركيا وعزلها ربما يغذى ميولها الأوراسية ويدفعها نحو تعميق تقاربها الاستراتيجى مع الصين وروسيا وإيران. وهو التحدى الذى لا تبدو واشنطن وحلفاؤها الغربيون على استعداد لتجرع مراراته.
بالتوازى، عمد إردوغان إلى تقوية نفوذه داخل واشنطن مستعينا بجماعات ضاغطة، تضم شركات ووكلاء أجانب مسجلين لدى وزارة العدل الأمريكية بموجب قانون تسجيل الوكلاء الأجانب «فارا» الذى ينظم عمل اللوبيات الأجنبية، إلى جانب شخصيات مقربة من الرئيس التركى وعائلته، كما منظمات على شاكلة «مؤسسة البحوث السياسية والاقتصادية والاجتماعية»، وثيقة الصلة بإردوغان وحزبه، و«منظمة التراث التركى»، التى تعمل كمنصة للمتحدثين الرسميين المؤيدين للحكومة التركية، وتحوى العديد من كبريات الشركات التركية، وتوفر الدعم لسياسيين أمريكيين موالين لأنقرة عبر تقديم التبرعات المالية لحملات مرشحى الكونجرس الذين يعملون لصالحها، وتحويل الأموال سرا لأعضائه بغية إعاقة الاعتراف الأمريكى بالإبادة الجماعية للأرمن على أيدى العثمانيين إبان الحرب العالمية الأولى، والحيلولة دون معاقبة أنقرة على تجاوزاتها. وعلاوة على مجموعة الدفاع المعروفة باسم «اللجنة التوجيهية الوطنية الأمريكية التركية»، التى دعمت نائب الرئيس مايك بنس حينما كان حاكما لولاية إنديانا، عمل مايكل فلين، مستشار الأمن القومى الأول للرئيس ترامب، كوكيل أجنبى غير مسجل لتركيا، حيث تم الكشف لاحقا عن تلقيه أموالا من رجل الأعمال التركى، أكيم ألبتكين، لكتابة مقال رأى ينتقد فتح الله كولن، الذى اعترف بالتورط مع ألبتكين وعملاء آخرين، فى التخطيط لاختطافه وتسليمه لأنقرة.
وبينما يرى كثيرون إردوغان امتدادا لسلفه الأسبق تورغوت أوزال، الذى وضع أسس النهضة الاقتصادية التى يعبث إردوغان اليوم بما أنتجته من فائض قوة، كما ألقى بذرة العثمانية الجديدة التى يرعاها إردوغان اليوم، يأبى الأخير إلا استلهام استراتيجيته فى إدارة أزمة الانتخابات الأمريكية الحالية. فمثلما لم تمنع علاقات أوزال الوثيقة بالرئيس الجمهورى الأسبق جورج بوش الأب قبيل انتخابات نوفمبر1992، من فتح قناة اتصال موازية مع منافسه الديمقراطى حينئذ بيل كلينتون،عبر الديمقراطى المقرب من عائلة كلينتون، ومدير معهد «بروكنجز»،ستروب تالبوت، الذى عمل كقناة اتصال سرية بين كلينتون وأوزال،مهدت بدورها السبيل لانعقاد أول قمة بالبيت الأبيض بين الرئيس المنتخب كلينتون وأوزال بعد أقل من ثلاثة أسابيع على انتهاء الانتخابات الرئاسية بفشل حليفه السابق بوش الأب فى انتزاع ولاية رئاسية ثانية. واليوم، وبينما لفتت «مؤسسة البحوث السياسية والاقتصادية والاجتماعية «إلى إمكانية استبقاء دفء العلاقات التركية الأمريكية عقب رحيل ترامب،عبر تجسير الفجوة بين إردوغان وبايدن توطئة لتجزئة الخلافات وحلحلتها تباعا، تمكن البوسنى إلفير كليمبيك، المدير التنفيذى لمنظمة التراث التركى الأمريكى، من اختراق حملة بايدن الرئاسية، من خلال العمل كمدير للتقارب القومى والمشاركة العرقية بها، فى خطوة اعتبرها معهد «أميركان إنتربرايز»، قفزة جبارة لمنظمة تعمل كوكيل للحكومة التركية.
غير بعيد، لم يألُ إردوغان جهدا لإعادة التموقع فى علاقته بالبيت الأبيض عبرالتحول من الرهان على ترامب، الذى يرى، كأسلافه من الرؤساء الجمهوريين الذين عايشت العلاقات الأمريكية التركية فيض انتعاش طيلة سنى حكمهم، فى تركيا الإردوغانية رأس حربة للجهود الأمريكية الرامية إلى كبح جماح التطلعات الاستراتيجية الروسية فى الشرق الأوسط وأوربا والبحر الأسود والقوقاز وبحر قزوين، إلى التعويل على استمرار نهج ترامب فى السياسة الأمريكية، ضمن توجه لم يكن رئاسيا محضا بقدر ما شكل موجة سياسية وفكرية عامة جسدها ترامب وعرفت إعلاميا بـ«الترمبية»، فيما يصر الظهير الشعبى المعبر عنها والمؤيد لها على إرساء دعائمها، استعدادا للعودة الثانية لترامب لاحقا، فى سياق عملية تعبئة لتيار عريض فى صفوف اليمين الأمريكى تعد الأضخم منذ عهد ريجان. فلقد بدأت حملة ترامب مناقشة إمكانية خوضه الانتخابات الرئاسية لعام 2024 بعد اقتناص ترشيح الحزب الجمهورى له مجددا، لاسيما وأن الدستور الأمريكى لا يمنع رئيس لم يحصل على ولاية رئاسية ثانية من معاودة الترشح، مثلما حدث لمرة وحيدة عام 1892، مع جروفر كليفلاند، الذى فاز بولاية رئاسية أولى عام 1884، ثم فشل فى الحصول على ولاية ثانية عام 1888، لكنه عاد بعد سنوات أربع ليخوض السباق من جديد ويهزم منافسه بنيامين هاريسون بفارق شاسع، ليصبح ثانى اثنين ديمقراطيين يعكران صفو هيمنة الجمهوريين المطلقة على الرئاسة منذ العام 1861 وحتى 1933.
على الجبهة المقابلة، تتفتق على استحياء إرهاصات التغيير فى الأفق التركى الملبد بالغيوم من وجهتين. أولاهما، اضطرار إردوغان للرضوخ لإلحاح المعارضة فى إجراء انتخابات مبكرة تعيد إنتاج سيناريو العام 2002، بحيث تفضى الأزمة الاقتصادية المتفاقمة، والردة الديمقراطية، وتفشى الفساد، بالتزامن مع التداعيات المأساوية لزلزال أزمير، إلى خسارة تحالف الجمهور، الذى يضم حزبى العدالة والحركة القومية، الحكم ليتشكل ائتلاف حكومى جديد من حزب الشعب الجمهورى والأحزاب المناهضة للسلطة الحالية، بما يسطر نهاية الحقبة الإردوغانية فى السياسة التركية، بكل ما انطوت عليه من عذابات داخلية وصدامات مع الحلفاء والمحيط الإقليمى. وأما ثانيتهما، فتتراءى فى تمسك إردوغان برفض الانتخابات المبكرة مخافة خسارتها فى ظل ارتباك وضعه التنافسى وتواصل نزيف شعبيته، لتجرى الانتخابات الرئاسية والبرلمانية بالتزامن بالموعد المقرر فى نوفمبر 2023، على أن يستغل الرئيس التركى تلك المدة المتبقية للقيام باستدارة استراتيجية يقلص خلالها وتيرة تقاربه الاستراتيجى الحذر مع موسكو، توطئة لترميم أواصر التحالف الاستراتيجى الراسخ مع الغرب، وزيادة منسوب الثقة مع واشنطن. وهى الاستدارة التى لاحت بوادرها أخيرا فى تنامى هوة الخلاف بين أنقرة وموسكو على جبهات شتى فى ليبيا وسوريا وشرق المتوسط والقوقاز.