الحرب في الاستراتيجية الساداتية - بشير عبد الفتاح - بوابة الشروق
الأربعاء 8 أكتوبر 2025 2:23 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

برأيك.. هل تنجح خطة الـ21 بندًا لترامب في إنهاء حرب غزة؟

الحرب في الاستراتيجية الساداتية

نشر فى : الإثنين 6 أكتوبر 2025 - 6:20 م | آخر تحديث : الإثنين 6 أكتوبر 2025 - 6:20 م

منذ توليه رئاسة مصر عقب وفاة الزعيم جمال عبد الناصر نهاية سبتمبر 1970، وحتى اندلاع حرب أكتوبر المجيدة عام 1973؛ ظل الرئيس الراحل أنور السادات محاصرًا باتهامات من قِبَل أناس كثيرين بالافتقار إلى الإرادة الحربية. أولئك الذين استندوا فى اتهاماتهم إلى جنوح الرجل لطرح مبادرات تسوية سلمية مع إسرائيل، متوسلًا لاسترداد الأراضى العربية المحتلة عام 1967، دونما اضطرار إلى خوض حروب مكلفة وغير مضمونة العواقب.

غير أن انتصار أكتوبر العظيم قد دحض تلك المزاعم، إذ تراءى للجميع أن استراتيجية السادات فى إدارة الصراع كانت تنطلق من تقديرات دقيقة لسيرورة الأحداث، أبرزها:

 إدراك الغايات الاستراتيجية بغير حروب: فبجريرة الخلل المروّع فى موازين القوى لمصلحة إسرائيل، وبموازاة انحياز غالبية دول العالم الوازنة إليها؛ انبرى السادات فى استلهام نهج الرئيس الأمريكى الأسبق جون كينيدى فى إدارة أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962، بحيث يتبنى مقاربة دبلوماسية ويتجنب الوسائل العسكرية المكلفة وغير الناجزة لتسوية صراع معقد أو حلحلة أزمة ملتهبة.

وهو توجه استراتيجى ليس بالمستحدث؛ ففى عصور ما قبل الميلاد، سطر المفكر الاستراتيجى الصينى الأشهر «صن تزو» مؤلفه الخالد «فن الحرب»، وفيه سلط الضوء على مبدأ أساسى فى الاستراتيجية العسكرية، يعتبر أن التخطيط الحربى فنّ يقتضى استعراض القوة واستخدامها لبلوغ غايات سياسية بأقصر الطرق وأقلها كلفة، ضمن مبدأ «الاقتصاد فى القوة». فالحرب ليست صراعًا دمويًا عبثيًا، بقدر ما هى وسيلة لفرض الإرادة السياسية على الخصم، بحيث تغدو «استمرارًا للسياسة بوسائل أخرى»، كما أكد المفكر الاستراتيجى البروسى الأبرز كلاوزفيتز.

ولطالما أبدى المحارب والرئيس الفرنسى الأسبق ديجول ولعه بالعبقرية الحربية للقائد البروسى الأعظم بسمارك، تلك التى تجلت إبان الحرب الروسية - البروسية عام 1870، فى معرفة متى وأين وكيف يوقفها.

ولما كان الخبراء الاستراتيجيون يعتبرون أن نهاية الحرب الكونية الثانية قد دشنت نهاية حلم «النصر المطلق»، فقد برزت الحاجة إلى التعامل مع الحرب لا بوصفها وسيلة إفناء وتدمير، بل آلية تفاوض وتواصل. ففى سفره المعنون استراتيجية الصراع المنشور عام 1960، يذكر توماس شيلينج، الاقتصادى الحائز على جائزة نوبل، أن «القدرة على الإيذاء تنطوى على قابلية للتفاوض»، ضمن ما يمكن وصفه بـ«الدبلوماسية الخشنة» التى لا تعتمد على استخدام القوة، بل على التلويح الجاد أو التهديد الموثوق بذلك. ومن ثم، تغدو الحرب فى جوهرها سجالًا ساخنًا لا عنفًا يجهض الحوار.

السوابق الناصرية: فرغم نجاح إسرائيل فى استدراجه إلى حرب كارثية لم يكن مستعدًا لها سنة 1967، لم يخف عبد الناصر استعداده لتقبّل تسوية سلمية. فعلاوة على رسائله الأربع والعشرين بهذا الخصوص مع نظيره الأمريكى الأسبق جون كينيدى مطلع ستينيات القرن الماضى، لم يستنكف صيف العام 1970 عن قبول «مبادرة روجرز» لوقف إطلاق النار لمدة 90 يومًا، وإجراء مفاوضات لتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 242. وبمناسبة الذكرى الخامسة والخمسين لوفاته الأسبوع الفائت، ظهر تسجيل صوتى بتاريخ السادس من سبتمبر 1970، يُبدى خلاله استعداده لحل سلمى متدرج مع إسرائيل لاسترداد الأراضى المحتلة. الأمر الذى يتلاقى مع محتوى تسجيل آخر بتاريخ أغسطس 1970، تم تداوله فى إبريل الماضى.

خطة الخداع الاستراتيجى: بعدما تأكد السادات من حتمية العمل العسكرى لتحريك الوضع السياسى والاستراتيجى المتيبّس، طفق يوظف مساعيه السابقة لالتماس تسوية سلمية، توخيًا لإنجاح خطة الخداع الاستراتيجى التى شارك فيها وأشرف على تنفيذها، مبتغيًا إقناع الإسرائيليين وأعوانهم بعدم الجهوزية المصرية لخوض الحرب.

وفى مطلع فبراير 1971، طرح مبادرته الأولى للسلام، وكانت تقضى بانسحاب إسرائيل من شرق قناة السويس وجعله منطقة منزوعة السلاح، على أن تُقلّص مصر تمركزات قواتها غرب القناة، وتقوم خلال ستة أشهر بافتتاحها للملاحة البحرية. إسرائيليا، رحّب وزير الدفاع آنذاك موشيه ديان بالعرض المصرى، انطلاقًا من نتائج حرب الاستنزاف التى انتهت بتمكن المصريين من تشييد حائط الصواريخ على الضفة الغربية للقناة، ومن ثم تقويض أسطورة التفوق الجوى الإسرائيلى، كما أثبتت قدرة المصريين على تحمّل الغارات داخل العمق بما يؤهلهم لخوض حرب جديدة والانتصار فيها.

لكن جولدا مائير، رئيسة الوزراء حينها، اشترطت أولًا توقيع معاهدة سلام شاملة مع مصر، لمنع السادات من استغلال افتتاح القناة غطاءً لتحريك العتاد والجنود شرقًا توطئة لاسترداد باقى سيناء. وبينما كان يصوغ المبادرات ويطرحها دون إشراك الأجهزة أو استشارة كبار رجال الدولة، اعتبر نائبه حينئذٍ على صبرى مبادرته تهربًا من خوض الحرب، ومن ثم ضاعف الضغوط عليه لتوقيع قرار بشنها.

ولا سيما أن الفريق فوزى وعددًا من كبار المسئولين حينها كانوا يرون أن قواتنا قد أكملت استعداداتها من حيث التخطيط والتدريب والتسليح، حتى إنهم طالبوا بتعجيل الحرب قبل تسلم إسرائيل صفقتى مقاتلات، إحداهما فرنسية من طراز «ميراج»، والأخرى أمريكية من طراز «إف 5»، بحلول سنة 1972، بما يضمن لها التفوق الجوى المطلق. وإن كانت مذكرات كلٍّ من الفريق أول صادق، وزير الحربية، والفريق الشاذلى، والمشير الجمسى، قد ذهبت إلى عكس ذلك.

وفى يونيو 2013، أفرجت الحكومة الإسرائيلية عن 27 وثيقة تتعلق بمحادثات أجرتها جولدا مائير مع المستشار الألمانى الأسبق ويلى براندت بتاريخ 9 يونيو 1973 فى القدس الغربية، قبيل ثلاثة أشهر من حرب أكتوبر، وعرضت خلالها البدء بمفاوضات سلام مع السادات بمنأى عن واشنطن، على أساس إعادة غالبية أراضى سيناء من دون العودة إلى حدود 1967. بيد أن القاهرة رفضت هذا العرض، ورهنت المفاوضات بتعهد إسرائيلى ملزم بالانسحاب من جميع الأراضى العربية المحتلة سنة 1967.

غياب الحماس السوفيتى: إذ لم يكن السوفييت يؤيدون خوض مصر حربًا ضد إسرائيل. حتى إن روايات غير مؤكدة تحدثت عن محاولتهم ترتيب لقاء مباشر فى موسكو بين عبد الناصر وليفى أشكول، رئيس الوزراء الإسرائيلى وقتذاك، بحضور القيادة السوفيتية قبل حرب يونيو 1967 لبحث تسوية سلمية للصراع. ورغم ترحيب أشكول وعبد الناصر فى البداية، اعتذر الأخير بعد استشارة القيادة السورية.

وفى أعقاب الهزيمة، لم يكن السوفييت يثقون فى قدرة المصريين على خوض حرب جديدة والانتصار فيها، ولعل هذا ما يفسر تواضع الانزعاج السوفييتى من إزاحة السادات للجوقة التى كانت تدفعه لاتخاذ قرار الحرب.

تثبيط القذافى للسادات: ففى أكتوبر 2021، كشفت وثائق جديدة بدأ الأرشيف الرسمى الإسرائيلى نشرها بمناسبة ذكرى حرب أكتوبر 1973، أن جهاز المخابرات العسكرية الإسرائيلى "أمان" تلقى معلومات عن ضغوط مارسها الرئيس الليبى الراحل معمر القذافى على السادات آنذاك للعدول عن قرار الحرب المحدودة.

إذ أظهرت وثيقة، عبارة عن بروتوكول جلسة استشارة بمنزل جولدا مائير يوم 18 أبريل 1973، أن القذافى لم يكن موقنًا بأن السادات وحافظ الأسد يمكنهما محاربة إسرائيل وهزيمتها. ورغم ذلك، كان يطالبهما بخطة لحرب شاملة تستهدف إعادة القوات الإسرائيلية إلى حدود 1967، بما يتيح للاجئين والنازحين الفلسطينيين العودة إلى بيوتهم، وهو ما لم يكن المصريون والسوريون يمتلكون إمكانات فعلية لتحقيقه. ومن ثم عكف على مطالبتهما بتأجيل الحرب الشاملة حتى يكونا مستعدين لها، ورهن دعمه المالى لهما بتلبيتهما مطالبه.

بعدما تأكد السادات أن السلام لن يولد إلا من رحم انتصار عسكرى، عقد النية على خوض الحرب. وفى كتابه البحث عن الذات، أكد أنه منذ اليوم الأول لتوليه الرئاسة كان ينتوى الحرب لتحرير سيناء، رغم الوضع الاقتصادى المتردى، حيث ذكر نصًا: «كنت على ثقة بأن مفتاح كل شىء سياسيًا، اقتصاديًا وعسكريًا؛ إنما يكمن فى تصحيح هزيمة 1967، لكى نستعيد ثقتنا فى أنفسنا وثقة العالم بنا. وكان تقديرى أننى حتى لو دفنت أربعين ألفًا من أبنائى فى القوات المسلحة ونحن نعبر القناة، فسيكون ذلك أشرف لنا ألف مرة من أن نقبل هذا الإذلال وتلك المهانة. وستأتى الأجيال القادمة من بعدنا لتقول إنهم ماتوا بشرف فى المعركة، ولابد أن يكملوها بعدنا».

ليست العبقرية الاستراتيجية فى اتخاذ قرار الحرب، وإنما فى كيفية وتوقيت إيقافها. ففى آخر مؤلفاته الصادر بداية عام 2022 بعنوان القيادة: ست دراسات فى الاستراتيجية العالمية، أعاد وزير الخارجية ومستشار الأمن القومى الأمريكى الأسبق هنرى كيسنجر الاعتبار للسادات، بإدراجه إياه ضمن قائمة تضم ست شخصيات عالمية جسدت سياساتها الداخلية والخارجية شخصية القائد وخصائص القيادة الناجحة فى ظل ظروف غير مواتية وسياقات تتسم بالاضطراب وعدم اليقين، حتى صنعت التاريخ وأحدثت اختراقًا استراتيجيًا فى مصائر دولها ومساقات السياسة الدولية.

وعلى مدى 73 صفحة خصصها لبطل الحرب والسلام، استعرض كيسنجر عبقرية السادات فى اتخاذ القرارات المصيرية والتاريخية الجسورة، حيث امتلك شجاعة خوض غمار الحرب وسط بيئة قرارية غاية فى الحساسية والتعقيد، ثم توقف بعد تقديرات استراتيجية حصيفة لمآلات الأمور، ووعود من «سيد اللعبة» الأمريكى ببلوغ غاياته عبر المفاوضات بدلًا من حرب ضروس قد يستعصى عليه مجاراة عدوه وداعميه الأسخياء الأوفياء فى مواصلتها

التعليقات