أذكر جيدا قبل أن ينتصف العقد الأول من الألفية الحالية، يوم عُهِد إلىّ وبعض من زملاء العمل بالبحث عن أدوات وآليات جديدة لاستحداثها فى بورصتى القاهرة والإسكندرية (البورصة المصرية حاليا)، كان البيع على المكشوف أو ما يعرف بالـ short selling هو إحدى الأدوات عالية المخاطر التى لم تعرفها سوق المال المصرية، والتى من شأنها أن تغير النظرة التقليدية إلى مؤشرات البورصة. فالتعامل فى البورصة التى يألفها عامة الناس هو شراء لأوراق مالية مع توقعات بارتفاع أسعارها وبالتالى يتطلع المشترى دائما وأبدا إلى ارتفاع أسعار الأوراق المالية التى بحوزته كى يتسنى له بيعها فى السوق وتحقيق هامش ربح. هنا يكون صعود المؤشرات السعرية لأسهم البورصة انعكاسا لسلامة السوق وجودة بضاعته، ولا أحد ينظر إلى الطرف الآخر من معادلة البيع طالما تحققت الأرباح الرأسمالية للبائع، لأن استمرار المؤشرات فى الصعود يعنى أن المشترى الجديد سوف يحقق أرباحا غدا.. وهكذا إلى ما لا نهاية!
بالطبع هذا لا يحدث لأن السوق تصحح نفسها كل فترة، وتنقلب الرغبة الجامحة فى الشراء إلى ضغوط بيعية كبيرة، وتخارج لأعداد مؤثرة من الاستثمارات فى أوقات الأزمات المالية ولأسباب أخرى لا مجال للاستفاضة فيها. عندئذ ولأن البيع هو سيد الموقف، وتراجع الأسعار يضرب الجميع، هناك فئة من المتعاملين اختلفت توقعاتهم تجاه السوق عن النظرة السائدة، وهو أمر صحى ولازم لاستمرار تدفق السيولة فى الأسواق، هؤلاء المتشائمون يمكنهم رؤية أسهم بعينها تتجه إلى الهبوط ويتطلعون إلى تحقيق أرباح من هذا الهبوط إذا صدقت توقعاتهم، فكيف يتحقق ذلك؟ ببساطة شديدة ستفعل تماما عكس ما اعتدت أن تفعله فى السوق التى تراها صاعدة، سوف تبيع أولا الأسهم بثمنها الحالى السائد على الشاشات ثم تعاود شراءها بعد أن يصدق حدسك وتنخفض أسعارها، عندها تحقق هامش ربح من الفرق بين قيمة البيع وثمن الشراء. إلى هنا يبدو أن الأمر بسيط ومباشر، لكن ماذا لو أن هذا الشخص صاحب الرؤية والتوقعات الراجحة لا يملك تلك الأسهم التى يريد بيعها؟! هنا يأتى عنصر المخاطرة الكبيرة، لأن كثيرا من الأسواق يسمح بما يعرف بالبيع على المكشوف دون غطاء أو naked short selling بفضل تلك الآلية يتمكن المضارب من بيع أسهم لا يملكها أبدا، ولن يكون فى حاجة إلى تسليمها لتسوية عملية البيع إلا بعد يومين أو ثلاثة أيام بحسب طبيعة فترة التسوية المطلوبة للتعاملات فى السوق، حينها تكون أسعار الورقة المالية قد انخفضت بالفعل، فيشتريها صاحبنا فى ذات الجلسة (وهى آلية أخرى) بغرض تسليمها لإتمام عملية البيع الأولى محققا الربح المنشود.
***
المخاطر هنا غير محدودة وغير محسوبة لو أن تلك الأسواق تتحرك فيها الأسعار بحرية تامة وفقا لآليات العرض والطلب ودون أى حدود سعرية. فالسهم الواحد يمكن أن يفقد مثلا 40% من قيمته فى جلسة تداول واحدة، وإذا تحقق هذا فإن البائع على المكشوف يحقق ثروة طائلة. أما لو حدث العكس وخابت توقعاته وارتفعت الأسعار بذات النسبة المذكورة على سبيل المثال، فإن البائع على المكشوف يتكبّد خسائر طائلة لإتمام عملية البيع الأولى، ويطلب شراء السهم بأى ثمن لإتمام التسوية وإلا فقد جميع الضمانات المالية التى قدّمها حتى يتمكن من ممارسة هذا النوع من الأنشطة عالية المخاطر. الأزمة تكون أعمق وأفدح أثرا لو أن هذا النوع من الخسائر مثّل اتجاها كبيرا فى السوق، ومن ثم تصبح الورقة المالية نادرة ومكشوفة بصورة شديدة الانحراف، وتتعرض المؤسسات ناهيك إلى الأفراد إلى مخاطر الإفلاس، وهذا ما دعا هيئة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية SEC إلى إيقاف العمل بتلك الآلية وقت الأزمات الحادة فى أكثر من سابقة، مثل أزمة الرهن العقارى فى عام 2008 وغيرها من أزمات شهيرة أخرى مثل «دوت كوم» و«إنرون».. خشية أن يغرى الاتجاه البيعى بأصحابه إلى دفع جميع المؤشرات السعرية إلى مزيد من الانهيار.
ولأن درجة النضج فى الأسواق الأمريكية والأوروبية تسمح بإدارة المخاطر على نحو شديد الاحترافية، فإن هذا النوع من البيوع قد ينجح فى بورصتى نيويورك وناسداك، إذ يوازن التدفقات الاستثمارية المشفوعة بتوقعات إيجابية، ويحقق أرباحا لفئة من المحترفين فى وقت الخسارة، بما يسمح بإعادة ضخه فى الأسواق شراءً لتصحيح المسار الهابط فى دورة لا تنتهى ولا ينبغى لها أن تتوقف وإلا خسر الجميع.
لكن استقر الرأى عند مجموعة العمل التى أنيط بها بحث استحداث أدوات وآليات مالية جديدة لتنشيط البورصة فى مصر إلى ضرورة التحوّط بأكثر من وجه. أولا: تزامن دخول آلية الشراء بالهامش margin trading مع آلية البيع على المكشوف (دعنا نسميها كذلك مجازا) حتى تتوازن توقعات الارتفاع مع توقعات التراجع بصورة تسمح بضخ مزيد من السيولة فى الأسواق، وهى الغاية العليا لمنظمى أى سوق. ثانيا: ضرورة استحداث نوع مميز جدا ومنتشر كذلك من البيع على المكشوف، يقوم أيضا على بيع أسهم لا يملكها البائع ولكنه لا يبيعها افتراضيا كما فى الحالة المذكورة آنفا، بل عليه أولا أن يقترضها من مقرض للأسهم، ويتوسّط فى عملية الإقراض نظام متطور يلتقى خلاله الراغبون فى إقراض أسهمهم مقابل هامش عائد مناسب، مع الراغبين فى اقتراضها بغرض البيع. هنا مازال العنصر الحاكم فى الآلية المستحدثة هو «البيع» لذا فإنه من المناسب أن يطلق عليها «بيع الأسهم المقترضة» وليس ما هو متداول حاليا وفى عنوان القانون من كونه «اقتراض الأسهم بغرض البيع». تلك فقط لطيفة لغوية ذات مدلول مهم يعكس بالضرورة درجة استيعاب السوق لتلك الآلية.
ولولا أن مصر بها شركة شديدة التميز فى القيام بعمليات المقاصة والتسوية والإيداع المركزى وهى الشركة التى تحمل اسم مصر مذّيلا بتلك الوظائف المهمة. لما أمكن الرهان على استحداث هذه الآلية التى تظل عالية المخاطر، وتحتاج إلى أنظمة الكترونية دقيقة جدا لا تحتمل أى أخطاء. وبالفعل قدّمت الشركة بإدارتها الحكيمة المستقرة دعما كاملا لمختلف الأنشطة المستحدثة فى الأسواق مثل بيع الأسهم المشتراة فى ذات الجلسة، والشراء بالهامش، وبيع الأسهم المقترضة.. ولديها جميع المقوّمات للعب دور مفصلىّ لاستحداث سوق المشتقات المالية والسلعية وشهادات الذهب كوسيط مركزى يحمل مخاطر طرفى العملية أو ما يعرف بالـ central counter party CCP وهو دور يقوم أساسا على علم إدارة المخاطر المختلفة (وأبرزها: السوقية ــ التشغيلية ــ الائتمانية).
***
استدعيت من ذاكرتى هذا التاريخ تزامنا مع بدء العمل بآلية «بيع الأسهم المقترضة» منذ أيام فقط، بعد أن اعترض الانطلاق بها الكثير من الأحداث السياسية والأمنية والاقتصادية، فضلا عن قدر لا بأس به من التردد وعدم الحسم خلال فترات بعينها. ومنذ أن تم إطلاق الآلية تثور أسئلة من نوعية: هل الوقت مناسب؟ هل التراجع فى السوق يعززه البدء فى بيع الأسهم المقترضة؟ لماذا تأخرت عن شقيقها الشراء بالهامش؟.. وكلها أسئلة مشروعة ومنطقية ويمكن الرد عليها فى ضوء حجم التعاملات وفق هذه الآلية، ونسبتها إلى تعاملات جلسة التداول، وطبيعة الأسهم التى اقترضت لتباع... لكن المهم ونحن نجيب على الأسئلة هو أن نفطن إلى ضرورة العيش مع المخاطر وإدارتها وليس تجنّبها أو تحاشيها أعواما قادمة منتظرين تلك اللحظة الأسطورية المسماة «الوقت المناسب». فإذا شهدت البورصة صعودا كبيرا قبيل استحداث الآلية لقال بعضهم هذا وقت غير مناسب، أنتم تريدون أن تفقدوا مؤشرات البورصة زخمها، وتكبحون جماحها بهذا القرار. وإذا انطلقت الآلية فى وقت التراجع لقيل أنتم تعززون منه وتصبون الزيت على النار! لا أحد أبدا يعرف الوقت المناسب على وجه اليقين، لكن بالتأكيد هناك اعتبارات ولمسات يعرفها أهل الخبرة تساعدهم على التسويق بنجاح لأى منتج جديد، حتى لا يولد موصوما بصفة سلبية، فيكرهه الناس كما كرهوا البورصة من قبل، بفعل أفلام الأربعينيات التى كانت تلقى الضوء على المنتحرين والمنهارين جرّاء خسارة أموالهم فى البورصات، كأنها صالة قمار لا مكان فيها لعمل أو لحسابات، وهى كذلك بالفعل لنفر كبير من المضاربين، ومنهم من يستطلع رأى النجوم قبل البيع والشراء.