فى كل يوم يمر على ثورات وحراكات الربيع العربى يتضح أكثر فأكثر أنه لا يكفى أن ترفع الثورات شعارات وأهداف المستقبل إذا لم يصاحب ذلك إزالة معوقات الماضى والحاضر، بل وتطهير الماضى والحاضر من شتى أنــواع المدنسات.
نعم، كان لابد من إعطاء الأولوية القصوى لإقصاء شخوص الاستبداد الرسمى من على عروش الحكم لكن ذلك غير كاف، إذ إن الثورات تحتاج أن تنتقل بسرعة إلى تعطيل آليات الإفساد السياسى الذى يسهل تواجد الاستبداد السياسى كشخوص وكمؤسسات وكعلاقات بين المجتمع وسلطة الدولة.
من أهم وأفتك آليات الإفساد السياسى آلية الطائفية السياسية. تواجد الطائفية السياسية إبَان فترات الحكم الاستبدادى لايزيد عن كونه أحد الأدوات، ضمن قائمة طويلة من الأدوات الأخرى، التى يستعملها المستبدون للهيمنة على المجتمعات والاستغلال واستباحة ثروات الشعوب وللبقاء فى الحكم إلى أبد الآبدين. أما تواجد الطائفية السياسية إبان فترات مابعد الثورات، الرافعة لشعارات الديموقراطية والمساواة فى المواطنة وحقوق الإنسان وغيرها من القيم السياسية الجامعة التى تسمو بالحياة الإنسانية، فإنها قادرة على تدمير الثورة أو حرفها عن مبادئها ونكوصها نحو الوراء.
•••
من هنا تأتى الأهمية القصوى للبدء فى الحال لإيلاء أولوية متقدمة لموضوع الطائفية السياسية التى تستغل أجواء التحسن النسبى لممارسة الحرية فى الحياة السياسية العربية لتطرح نفسها بقوة وبأشكال خبيثة بألف قناع. إنها اليوم ماثلة بصور متعددة فى تونس ومصر وليبيا والعراق وسوريا ولبنان ودول الخليج العربى واليمن والأردن، وهى تنتظر الوقت المناسب لتظهر فى الأقطار العربية الأخرى. باسمها يجرى تدمير أقطار عربية وتهيأ أقطار للتقسيم والتجزئة، وتحفر شروخا عميقة بين مكونات مجتمعية عاشت عبر القرون فى سلام وتفاهم. وباسمها، وهى تقبع وراء قناع دينى يدعى القداسة ويفترى على الله الكذب، تجرى محاولات سرقة الثورات واستغلال الجهد الشبابى الثورى وتضحياته المبهرة، وذلك تمهيدا لبناء أنظمة حكم تدعى الديموقراطية، والديموقراطية الإنسانية العادلة المتناغمة مع القسط والميزان الإلهى منها براء. ومرة أخرى، كعادتنا فى بلاد العرب، وباسم الخصوصية الثقافية، تجرى محاولة بناء ديموقراطية مشوهة يتحكم فيها عقل سياسى طائفى دوغمائى منطلق من نعرات تاريخية بليدة ومن مظالم لا دخل لشباب الثورات العربية بها ومن مشاعر مكبوتة عبر القرون يراد لها أن تنفجر وتطفو على السَطح الآن.
•••
إن مثيرى الفتن الطائفية السياسية فى الشوارع وعلى المنابر الإعلامية ويغطونها بعباءة الدين يعلمون جيدا أن الفتن الطائفية الإسلامية لم تكن أكثر من نزاعات سياسية مبنية على منطلقات قبلية، وأن الأطماع الدنيوية وأنظمة الحكم الاستبدادية الفاسدة أبقتها مشتعلة عبر القرون، وأن فترات الاستعمار قد استغلتها أبشع استغلال لصالح المستعمر، وأن الحلف الصهيونى ــ الغربى يزيد الآن حطب نارها فى كل دقيقة ،ومع ذلك، وبالرغم من الأحلام العظيمة للثورات المباركة تستعمل تلك الفتن فى إثارة أحداث وصراعات يومية تنهك المجتمعات العربية التى تريد أن تتعافى.
الثورات العربية إذن يجب أن تلتفت لهذا الموضوع فى الحال لتهميشه كموضوع حياتى يومى. وتهميشه لا يمكن أن يبدأ إلا من خلال إنعاش الهوية الوطنية الجامعة والانتماء القومى الجامع كشعارات وممارسات يلمسها المواطن العربى يوميا فى إعلام الثورات وقوانينها وعدالة توزيعها للثروات المادية والمعنوية والإصرار على إقصاء كل من يخلط الدين بسموم الطائفية فى الحياة السياسية العربية الجديدة. ولذلك فأمام محاولة الفكر السياسى الطائفى جعل الناس يعيشون أجواء وأعياد وطقوس الحياة الطائفية تحتاج الثورات البدء ببناء أجواء وأعياد وطقوس الحياة الثورية الجديدة فى المدرسة والشارع وعلى وسائل الإعلام الجماهيرية.
•••
إن العقل السياسى الطائفى لا يُرى له هدف غير إعادة التوازن بين المذاهب والطوائف وتقسيم الثروات والسلطات فيما بين المنتمين لها. أما العقل السياسى الوطنى والقومى غير القبلى والدينى غير الطائفى فإنه لا يؤمن بالمقاسمات الطائفية والمذهبية والقبلية، لأنه يتخطاها إلى عوالم الحقوق الإنسانية والمسئوليات الأخلاقية والمساواة فى المواطنة والعدالة فى الحكم وكرامة الإنسان منذ نشأته وحتى مماته. عند ذاك لن يحتاج الإنسان العربى إلى قبيلة تحميه أو شيخ مذهب يدافع عن حقوقه أو راع يمن عليه بالمكرمات أو هيئات ودول أجنبية تتدخل لإنصافه أو مؤسسات وساحات دولية ليعرض عليها وفيها مظالمه.
مجتمعات مابعد الثورات والحراكات العربية تحتاج أن تطهر نفسها، بالسرعة القصوى، من دنس العقل السياسى الطائفى وممارساته وأكاذيبه. هذا موضوع من مواضيع السَاعة لايمكن تأجيله، إذ لن يتم بناء راسخ قبل حسم هذا المرض التاريخى الذى باسمه يُدمَر الحاضر ويُزوَّر المستقبل.
مفكر عربى من البحرين