نشر موقع Project Syndicate مقالا لأستاذ الاقتصاد نورييل روبينى، يقول فيه إن انشغال العالم بمستقبل الذكاء الاصطناعى، وخوفهم من تأثيره السلبى على البشرية، فى غير محله، بل عليهم الانشغال بالغباء البشرى الذى أدى إلى انتشار الحروب والصراعات الجسيمة واتساع نطاقها، مما يعنى وجود خلل فى السياسات العالمية المتبعة لتهدئة الأوضاع، بينما الذكاء الاصطناعى من الممكن أن يساعدنا فى التغلب على غباء البشر، ويخلق عالما أفضل، فقط إن أحسنا إدارة آثاره السلبية... نعرض من المقال ما يلى:استهل الكاتب حديثه: منذ عودتى من اجتماع المنتدى الاقتصادى العالمى فى دافوس هذا العام، سئلت مرارا وتكرارا عن أكبر ما خرجت به من نتائج هناك. بين القضايا التى نوقشت على نطاق واسع هذا العام كان الذكاء الاصطناعى ــ وخاصة الذكاء الاصطناعى التوليدى (GenAI). ومع تبنى نماذج اللغات الضخمة أخيرا مثل النموذج الذى يقوم عليه ChatGPT، تنشأ آمال عريضة ــ ويعلو الضجيج ــ حول ما يمكن أن يفعله الذكاء الاصطناعى لتعزيز الإنتاجية والنمو الاقتصادى فى المستقبل.
للإجابة عن هذا السؤال، يجب أن نضع فى الحسبان أن عالمنا يهيمن عليه الغباء البشرى بدرجة أكبر كثيرا من خضوعه للذكاء الاصطناعى. ويؤكد انتشار التهديدات الجسيمة أن سياستنا مختلة بدرجة كبيرة، وأن سياساتنا مضللة إلى الحد الذى يجعلها عاجزة عن معالجة حتى المخاطر الأشد فداحة ووضوحا التى تهدد مستقبلنا، والتى تشمل تغير المناخ الذى سيخلف تكاليف اقتصادية ضخمة؛ والدول الفاشلة التى ستجعل الموجات من لاجئات ولاجئى المناخ أكبر؛ والجوائح المرضية الخبيثة المتكررة التى قد تكون أشد ضررا على المستوى الاقتصادى من جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيدــ19). ما يزيد الطين بلة أن منافسات جيوسياسية خطيرة تتطور لتتحول إلى حروب باردة جديدة ــ كتلك بين الولايات المتحدة والصين ــ أو حروب ساخنة محتملة الانفجار، كتلك الدائرة فى أوكرانيا والشرق الأوسط. وفى مختلف أنحاء العالم، تسبب اتساع فجوات التفاوت فى الدخل والثروة، المدفوع جزئيا بالعولمة المفرطة والتكنولوجيات الموفرة للعمالة، فى إشعال شرارة ردة فعل عكسية ضد الديمقراطية الليبرالية، وخلق الفرص للحركات السياسية الشعبوية والاستبدادية والعنيفة.
كما تهدد مستويات غير مستدامة من الديون الخاصة والعامة بالتعجيل باندلاع أزمات الديون والأزمات المالية، وربما نشهد عودة التضخم وصدمات العرض الكلى السلبية المسببة للركود التضخمى. ويسير الاتجاه الأعرض على مستوى العالم نحو سياسات الحماية، وإلغاء العولمة، وفك الارتباط، ومحاولات الاستغناء عن الدولار.
علاوة على ما سبق، نجد أن تكنولوجيات الذكاء الاصطناعى الجديدة الشجاعة التى قد تساهم فى النمو ورفاهة البشر تنطوى أيضا على إمكانات مدمرة عظمى. فهى تستخدم بالفعل للدفع بالمعلومات المضللة، والتزييف العميق، والتلاعب بالانتخابات إلى مستويات مفرطة، فضلا عن إثارة المخاوف بشأن البطالة التكنولوجية الدائمة، بل وحتى فجوات التفاوت الأشد اتساعا. ولا يقل عن ذلك شؤما صعود الأسلحة الذاتية التشغيل والحرب السيبرانية المعززة بالذكاء الاصطناعى.
• • •
يضيف الكاتب: فى انبهارهم ببريق الذكاء الاصطناعى، لم يركز الأشخاص الحاضرون فى دافوس على أغلب هذه التهديدات الجسيمة. ولم يكن هذا مفاجئا. فمن خلال خبرتى، تشكل الروح السائدة فى المنتدى الاقتصادى العالمى مؤشرا مضادا للاتجاه الذى يسلكه العالم حقا. الواقع أن صناع السياسات وقادة الأعمال متواجدون هناك لبيع كتبهم وتبادل العبارات المبتذلة. إنهم يمثلون الحكمة التقليدية السائدة، التى تستند غالبا إلى رؤية عبر نافذة خلفية للتطورات العالمية وتطورات الاقتصاد الكلى.
ويستكمل: عندما حذرت فى اجتماع المنتدى الاقتصادى العالمى فى عام 2006 من أن الأزمة المالية العالمية قادمة، انصرف الناس عنى باعتبارى من المتشائمين. وعندما توقعت فى عام 2007 أن تواجه دول عـدة فى منطقة اليورو قريبا مشكلات الديون السيادية، اكـفـهـر وجه وزير المالية الإيطالى ونـهـرنى لفظيا. وفى عام 2016، عندما سألنى الجميع ما إذا كان انهيار سوق الأوراق المالية الصينية ينذر بهبوط حاد من شأنه أن يتسبب فى تكرار الأزمة المالية العالمية، زعمت ــ وكنت محقا ــ أن الصين سوف تواجه هبوطا وعرا لكنه موجه. خلال الفترة من 2019 إلى 2021، كان الموضوع المساير للموضة فى دافوس فقاعة العملات الرقمية المشفرة التى انهارت ابتداء من عام 2022. ثم تحول التركيز إلى الهيدروجين النظيف والأخضر، وهو بدعة أخرى بدأت تتلاشى بالفعل.
عندما يتعلق الأمر بالذكاء الاصطناعى، لا يخلو الأمر من احتمال كبير للغاية أن تعمل التكنولوجيا على تغيير العالم بالفعل فى العقود القادمة. لكن تركيز المنتدى الاقتصادى العالمى على الذكاء الاصطناعى التوليدى يبدو فى غير محله بالفعل، مع الأخذ فى الاعتبار أن تقنيات وصناعات الذكاء الاصطناعى فى المستقبل سوف تذهب إلى ما هو أبعد من هذه النماذج. لنتأمل هنا على سبيل المثال الثورة الجارية فى مجال الروبوتات والتشغيل الآلى، والتى سـتـفـضى قريبا إلى تطوير روبوتات تحمل سـمات شبيهة بالبشر وقادرة على التعلم والقيام بمهام متعددة على غرار الإنسان. أو لنتخيل ما قد يفعله الذكاء الاصطناعى للتكنولوجيا الحيوية، والطب، وفى نهاية المطاف صحة الإنسان ومدى حياته. ولا تقل عن ذلك إثارة للاهتمام التطورات التى يشهدها مجال الحوسبة الكمومية، والتى ستندمج فى نهاية الأمر مع الذكاء الاصطناعى لإنتاج تطبيقات متقدمة لكتابة الشفرة وتعزيز الأمن السيبرانى.
ينبغى أيضا تطبيق ذات المنظور البعيد الأمد على المناقشات التى تتناول المناخ. لقد بات من المرجح على نحو متزايد ألا تـحـل مشكلة المناخ بالاستعانة بمصادر الطاقة المتجددة ــ التى تنمو ببطء أشد من أن يسمح لها بإحداث تغيير كبير ــ أو التكنولوجيات الباهظة التكلفة مثل احتجاز وعزل الكربون والهيدروجين الأخضر. بدلا من ذلك، قد نشهد ثورة فى مجال الطاقة الاندماجية، شريطة أن نتمكن من بناء مفاعل تجارى فى غضون السنوات الخمس عشرة المقبلة. هذا المصدر الوفير للطاقة النظيفة الرخيصة، إلى جانب تحلية المياه غير المكلفة والتكنولوجيا الزراعية، من شأنه أن يسمح لنا بإطعام عشرة مليارات من البشر الذين سيعيشون على كوكب الأرض بحلول نهاية هذا القرن.
على نحو مماثل، لن تتمحور ثورة الخدمات المالية حول سلاسل الكتل اللامركزية أو العملات الرقمية المشفرة. بل ستتميز هذه الثورة بنوع من التكنولوجيا المالية المركزية المدعومة بالذكاء الاصطناعى والتى تعمل بالفعل على تحسين أنظمة الدفع، والإقراض وتخصيص الائتمان، والاكتتاب فى التأمين، وإدارة الأصول. وسوف يقودنا علم المواد إلى ثورة فى المكونات الجديدة، وتصنيع الطباعة الثلاثية الأبعاد، وتكنولوجيات النانو، والبيولوجيا التخليقية. كما سيساعدنا استكشاف الفضاء واستغلاله فى إنقاذ الكوكب وإيجاد طرق لإنشاء أنماط حياة خارج الكوكب.
• • •
الحق أن هذه التكنولوجيات وغيرها كثير من الممكن أن تغير العالم نحو الأفضل، ولكن فقط إذا تمكنا من إدارة آثارها الجانبية السلبية، وفقط إذا استـخـدمـت لحل كل التهديدات الجسيمة التى نواجهها.
لا يملك المرء إلا أن يأمل أن يتغلب الذكاء الاصطناعى يوما ما على غباء البشر. لكنه لن يحظى بالفرصة أبدا إذا دمرنا أنفسنا أولا.
النص الأصلى: