«أنا لا أحاول الحفاظ على حياتي من خلال فلسفتي فهذا شيء حقير، ولا أحاول إخضاع حياتي لفلسفتي فهذا شيء متحذلق، لكن في الحقيقة الحياة والفلسفة شيء واحد».. ضم الفيلسوف الوجودي الأشهر الفرنسي جان بول سارتر، هذه الكلمات إلى كتاب «دفاتر الحرب الغريبة»؛ إذ كان يحاول دائمًا على مدار حياته أن يصيغ فلسفته، ويربطها بالحياة العادية اليومية، لذلك ظل تأثيره وحضوره كبيرا ليس فقط عند الفلاسفة والمثقفين، بل حتى عند الناس العاديين.
وفي ذكرى ميلاد شاعر الوجودية، والذي ولد في يونيو من عام 1905 ورحل في 15 أبريل من عام 1980، نحاول استعادة سيرة وأفكار الفيلسوف والروائي والناقد المسرحي الذي صنع من الوجودية فلسفة حية تتجاوز جدران الأكاديميا إلى باريس العادية وشوارعها المضطربة سياسيا، قليلون من استطاعوا أن يكونوا فلاسفة وأدباء ومناضلين في آن واحد، وسارتر أحدهم.
ووُلد "سارتر" في باريس لعائلة برجوازية، وفقد والده صغيرا فعاش في كنف أمه وجده، درس الفلسفة في مدرسة الأساتذة العليا في باريس، ومنذ سنواته الأولى بدا شغوفا بحرية الفكر، رافضا لأي سلطة تحد من قدرة الإنسان على الفعل والاختيار.
وجاءت الحرب العالمية الثانية لحظة فارقة في حياته، حيث شارك فيه وخاض تجربة الأسر في معسكر ألماني، ثم عاد إلى باريس؛ ليكتب ويفكر ويقاوم بالمعنى الوجودي لا العسكري فقط.
هنا تبلورت الفكرة الجوهرية لفلسفته الوجودية: «الوجود يسبق الماهية» أي أن الإنسان لا يُخلق ومعه وصفة جاهزة لحياته، بل يُلقيه الوجود عاريًا ليخترع ذاته عبر قراراته وأفعاله اليومية.
ويعتبر سارتر، أن الحرية ليست شعارا بل قدرا لا مفر منه: «الإنسان محكوم عليه أن يكون حرًا»، هذه الحرية مرعبة لأنها تجعلك مسئولا وحيدا عن كل ما تختار وما تتجاهل وما تفعل وما لا تفعل، "لا إله" ولا قدر ولا مجتمع يتحمل عنك وزرك.
وجعل سارتر من هذه الفلسفة أسلوب حياة وسلوك كتابة، فكتب رواياته ومسرحياته؛ ليجسد فيها الإنسان الحر القلق المتردد الذي لا يجد إجابات جاهزة، بل يصنع معناه بمعانة الروح، وعلاقة سارتر بالكتابة الأدبية علاقة ملتبسة، فهو يكتب بشكل عفوي كبير.
وتميزت موضوعات سارتر الدرامية بالتركيز على حالة أقرب إلى المأزق أو الورطة، ومسرحياته «الذباب»، و«لا مخرج»، و«المنتصرون» تدور في غرف التعذيب أو في غرفة في جهنم أو تحكي عن طاعون مصدره الذباب.
وتدور معظمها حول الجهد الذي يبذله الفرد؛ ليختار حياته وأسلوبها كما يريده هو، وسط محاولات العالم التقليدي تقييد البطل ووضعه في مأزق وتشويهه وتشويه حياته.
ولم يفصل سارتر بين كرسي الفيلسوف ومنبر الناشط، إذ شارك في التظاهرات ضد الاستعمار الفرنسي للجزائر، ووقف إلى جوار الثورات رغم تناقضاتها، وظل مناهضا لأي شكل من أشكال القمع أو الرقابة.
وفي عام 1964، فجر سارتر، الحدث الأكبر برفضه لجائزة نوبل في الأدب؛ استنادا لأفكاره الوجودية، التي تقول إن أي شخص لا يستحق أن يكرم وهو على قيد الحياة، ولأن الجوائز الرسمية ستعيق الكاتب والفيلسوف وتحوله إلى مؤسسة.
- شريكته في الفكر والحياة
وحين يُذكر سارتر تُذكر معه بكل تأكيد شريكته في الفكر والحياة سيمون دي بوفوار، المرأة التي كسرت بدورها كثيرا من أصنام التقاليد، ورفعت لواء النسوية في زمن محافظ، كانا معًا نموذجًا لحب خارج القوالب ولشراكة فكرية حرّة لم تهزمها الألسنة ولا النميمة ولا الزمن.
بعد أكثر من 4 عقود على رحيله، لا يزال سارتر حيا في النقاشات الأكاديمية وحياة القراء الشباب، يخرج كل مرة من بين صفحات كتبه؛ ليذكرنا أننا أحرار بقدر ما نتحمل من مسئولية لحريتنا.