رغم صدور مذكرة اعتقال بحقه هو ووزير دفاعه السابق يوآف جالانت، من لدن المحكمة الجنائية الدولية فى 21 نوفمبر الماضى. بجريرة ارتكابهما جرائم حرب إبادة جماعية، وجرائم ضد الإنسانية، بحق الفلسطينيين فى قطاع غزة، خلفت أكثر من 159 ألف شهيد وجريح، معظمهم من الأطفال والنساء، فضلًا عما يناهز14 ألف مفقود. لم يتورع ترامب عن استقبال، نتنياهو، مفجعًا الورى، خلال مباحثاته معه، بمقترح تهجير الفلسطينيين من غزة، وقيام إسرائيل بتسليم القطاع للولايات المتحدة، التى ستتولى بدورها العمل على إعادة إعماره، بما يوجد آلاف الوظائف، ويجعل من غزة «ريفييرا الشرق الأوسط». وبعدما توقع تهافت البشر من شتى أصقاع المعمورة للعيش فى غزة الجديدة والمبهرة؛ لم يستبعد ترامب ووزير دفاعه اللجوء إلى مختلف السبل لإتمام تنفيذ ذلك المخطط.
ينطوى طرح ترامب الصادم على دلالات استراتيجية مهمة وخطيرة. لعل أبرزها: القطيعة مع الشرعية الدولية، التى تشكل مرجعية قانونية وسياسية للتعاطى مع الصراع العربى الإسرائيلى. وذلك بداية من قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181، بشأن تقسيم فلسطين. ففى 29 نوفمبر من عام 1947، وهو اليوم الذى اعتمدته الأمم المتحدة لاحقا بوصفه اليوم الدولى للتضامن مع الشعب الفلسطينى، أصدرت الجمعية العامة القرار 181 (د-2)، الذى أصبح يعرف باسم قرار التقسيم. وقد نص القرار التاريخى على أن تُنشأ فى فلسطين «دولة يهودية» و«دولة عربية»، مع اعتبار القدس كيانًا متميزًا يخضع لنظام دولى خاص. ومن بين الدولتين المقرر إنشاؤهما بموجب هذا القرار، واللتين يتعين أن تعترف كل منهما بالأخرى وتتعايش معها؛ لم تظهر إلى الوجود سوى دولة واحدة هى إسرائيل. وفى 11 ديسمبر من العام 1948، صدر القرار رقم 194 بشأن السماح للاجئين الفلسطينيين الراغبين فى العودة إلى ديارهم والعيش بسلام مع جيرانهم، فى أقرب وقت ممكن. علاوة على منح تعويضات لأولئك الذين يفضلون عدم العودة، عن فقدان أو تلف ممتلكاتهم الخاصة، استنادا إلى مبادئ القانون الدولى وقواعد الإنصاف.
طوال الحقبة الممتدة من عام 1967 حتى 1989، اعتمد مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة 131 قرارًا يعالج، بشكل مباشر، الصراع العربى الإسرائيلى، انصرف جلها صوب الفلسطينيين. ومنذ العام 1991، دلفت إلى معادلة التسوية مرجعيات مؤتمر مدريد للسلام. وبحلول عام 2012، بدأت الأمم المتحدة إصدار عدد من القرارات، التى تتعرض، بصورة مباشرة، للدولة الفلسطينية الحديثة. ومن خلال طرحه المثير، يكون ترامب، قد ضرب عرض الحائط بثوابت السياسة الأمريكية الراسخة منذ عقود، حيال الصراع العربى- الإسرائيلى. تلك التى ترتكن على مقررات الشرعية الدولية ذات الصلة، فيما أسهمت الإدارات الأمريكية المتعاقبة، فى إرساء دعائمها.
عروج واشنطن إلى مرحلة جديدة وشائكة فى إدارة الصراع العربى الإسرائيلى. فتأسيسا على طروحات، ترامب، الصادمة، تتحول واشنطن من استراتيجية إدارة الصراع العربى الإسرائيلى، إلى مخطط تمييعه، عبر تصفية القضية الفلسطينية. جدير بالذكر أن الولايات المتحدة كانت قد انخرطت فى استراتيجية حل ذلك الصراع، من خلال المفاوضات متعددة الأطراف، ووفقا لمبادىء الشرعية الدولية. لكنها ما لبثت أن انجرفت، تحت وطأة الضغوط الإسرائيلية، إلى إدارته بدلا من حسمه وتسويته. واليوم، تسعى إلى تقويض الصراع من خلال تصفية القضية الفلسطينية. وليس حلها نهائيًا وبطريقة عادلة.
انخراط أمريكا فى أنشطة استعمارية. لطالما ادعت واشنطن وتفاخرت بما يسمى الاستثنائية الأمريكية، أى تفوق الأمة الأمريكية على من سواها. فمن منظور حضارى وأخلاقى، يتباهى الأمريكيون بخلو سجلهم من أية تجارب استعمارية لشعوب أخرى، كتلك التى وصمت دولًا أوروبية كمثل فرنسا، بريطانيا، إيطاليا، هولندا، إسبانيا والبرتغال. لكن التاريخ الحديث أماط اللثام عن تورط الولايات المتحدة فى أنشطة كولونيالية، رغم أفول حقبة الاستعمار الكلاسيكى. فلم يتورع العم سام عن احتلال كل من هايتى، الدومينيكان، أفغانستان، العراق، والصومال. كما تدخل عسكريًا فى كوريا، فيتنام، بنما، كوبا، جواتيمالا، الاكوادور، ليبيا، السودان، يوغوسلافيا، وسوريا. وها هى واشنطن اليوم، تتحول من الانخراط غير المباشر فى العدوان على غزة والضفة، عبر دعم إسرائيل ماليًا، تسليحيًا ودبلوماسيًا، إلى احتلال القطاع، عبر ملكية طويلة الأمد. وذلك رغم تيقنها من أن صراعات الشرق الأوسط، تدور رحاها، بالأساس، حول الأرض. وكأننا بترامب، وقد استحضر تجربة التطهير العرقى، التى مارسها الأمريكيون الأوائل ضد السكان الأصليين لأمريكا بين القرنين السابع عشر والتاسع عشر. وهى التى استهدفت، وقتذاك، إفراغ الأرض من قاطنيها الهنود، توطئة لاحتلالها، ونهب مقدراتها وثرواتها. وفى 28 مايو 1890، أصدر الكونجرس ما عرف بقانون «إبعاد الهنود»، الذى سمح للرئيس الأمريكى بالتفاوض مع الهنود الحمر، بقصد إبعادهم إلى أراضٍ فيدرالية غرب نهر الميسيسيبى، مقابل التخلى عن أراضيهم الأصلية.
تقويض النظام الدولى القائم على القواعد. حيث تعود نشأة النظام الدولى الراهن إلى مخرجات اتفاقات يالطا، حينما كانت الحرب الكونية الثانية تضع أوزارها قبل انقضاء عام 1945. وبينما كان يُنظر إلى الولايات المتحدة بوصفها راعية لهذا النظام، بصفتها «قوة مهيمنة وخيّرة»، تنذر مساعى، ترامب، لإعادة تشكيل العالم وفقًا لأهوائه، وازدرائه الشرعية الدولية والهيئات الأممية متعددة الأطراف، بفقدان واشنطن مكانتها كراعٍ لهذا النظام الدولى، وخط دفاع أخير عن بقائه. ذلك أن إضعاف ،ترامب، الأمم المتحدة، التى لم تنشأ لتقودنا إلى الجنة، بل لتجنيبنا الجحيم، سيفضى إلى سقوط ذلك النظام العالمى، الذى أسهم الرئيس الأمريكى الأسبق، ترومان، فى إرساء دعائمه؛ فيما عكف خلفاؤه على استبقائه؛ بينما ينعته اليوم وزير الخارجية، روبيو، بالنظام "العتيق". فما كادت تمضى بضع ساعات على أدائه اليمين الدستورية، حتى انبرى، ترامب، فى إصدار المراسيم الكارثية بالانسحاب من منظمة الصحة العالمية، اتفاقية باريس للمناخ، مجلس حقوق الإنسان، منظمة الأونروا، وفرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية. ومن شأن تلك القرارات البائسة أن تمهد للصعود الصينى. إذ لا تكاد تنسحب واشنطن من مؤسسات النظام الدولى، حتى تهرع بكين لتحل محلها. محاولة منها لتقديم نفسها لدول الجنوب العالمى، باعتبارها الراعى الأكثر موثوقية لنظام دولى أكثر عدالة وديمقراطية.
بقدر تقويضها ثقة محور الاعتدال العربى به، تجاوزت مقترحات، ترامب، وعطاياه أحلام اليمين الإسرائيلى المتطرف. حيث اعتبر، نتنياهو، الرئيس الجمهورى، أعظم صديق ولج المكتب البيضاوى، فى تاريخ إسرائيل. ووصف خطته بشأن غزة، بأنها تفكير إبداعى سيغيّر مجرى التاريخ، كما سيحقق أهداف العدوان على غزة، ويعيد رسم معالم الشرق الأوسط. أما وزير ماليته، سموتريتش، فبعدما أعرب عن سعادته، أشاد بصوابية قراره البقاء فى الائتلاف الحاكم. بينما ارتاى وزير الأمن القومى المستقيل، بن جفير، فى الطرح الترامبى المجحف، محفزًا لعودته إلى ذلك الائتلاف.
رغم بشاعتها وتحمس الإدارة الأمريكية وحكومة نتنياهو، لها، لا يمكن اعتبار طروحات، ترامب، قدرا محتوما. فلقد قوبلت برفض كونى عارم. وحرى بالدول العربية والإسلامية استثمار تلك اللحظة التاريخية، لتأكيد جدارتها بتبوؤ مكانة لائقة فى نظام دولى قيد التشكل؛ عبر توحيد مواقفها والتصدى لمخططات تصفية القضية الفلسطينية. وحبذا، لو استبقت لقاء ترامب، بكل من الرئيس المصرى والعاهل الأردنى، بعقد قمة عربية-إسلامية طارئة، تجدد الاعتصام بثوابت الحل العادل للقضية الفلسطينية، والتسوية الشاملة للصراع العربى الإسرائيلى، وفقا لمقررات الشرعية الدولية. على أن يتم تعزيز ظهير عربى-إسلامى، مؤازر لمصر، والأردن، والسعودية، فى تصديهم لأية ضغوط أمريكية أو محاولات ابتزاز إسرائيلية. ولعل الأوان قد آن ليوظف العرب ما بحوزتهم من أوراق قوة اقتصادية وجيوسياسية، لحمل إدارة ترامب، على التراجع عن اقتراحاتها. ويأتى فى صدارة تلك الأوراق، إنهاء الانقسام الفلسطينى، مع رهن مساعى توسيع التطبيع، السلام الإبراهيمى، والسلام الاقتصادى؛ بانسحاب إسرائيل الكامل من الأراضى العربية المحتلة كافة. والشروع، فورا ودونما إبطاء أو مراوغة، فى إقامة دولة فلسطينية مستقلة، مترابطة جغرافيا وديمجرافيا، وكاملة السيادة، على حدود الرابع من يونيو 1967، وعاصمتها القدس الشرقية.