لا أتحدث هنا عن نسخ الدستور الأمريكى أو تمصيره، بل أقصد تبنى روحه ومبادئه، وأن نحاول أن نقترب من وطنية من كتبه فيما يتعلق بتغليب الصالح العام على المصالح الضيقة. كذلك أن نأخذ فى الحسبان الخصوصية المصرية كما فعل الأمريكيون منذ 230 عاما عندما راعوا خصوصيتهم الأمريكية.
ورغم حداثة الدولة الأمريكية، إلا أنها تمتلك أقدم دستور مكتوب فى العالم، والدستور الأمريكى هو أكثر الصادرات الأمريكية شعبية وأقدمها إذ كتب عام 1787 على يد 55 شخصا يطلق عليهم «الآباء المؤسسون». واقتبست العديد من دول العالم مثل البرازيل وبلجيكا والنرويج واليابان والمكسيك، خبرة كتابة دساتيرها مهتدية بالتجربة الأمريكية.
لم يكن الدستور الأمريكى وثيقة طويلة، ومع ذلك وفر إطار عمل لأكثر أنظمه الحكم تعقيدا. وجاء الدستور الأمريكى مختصرا خاليا من العبارات اللغوية عديمة الجدوى، يحتوى فقط على 7 مواد، تتضمن بدورها 36 فقرة، ويصل مجموع كلماته، حتى بعد إضافة 27 تعديلا عليه خلال القرنين الماضيين، وكان آخرها عام 1992، إلى ما يقرب من 6500 كلمة (عشر صفحات تقريبا).
كان التوصل إلى إجماع حول بعض بنود الدستور الأمريكى أشبه بالمستحيل فى حالات عديدة، وعلى سبيل المثال رأى بعض المندوبين أن الشعب الأمريكى ليس لديه الدراية الكافية لحكم نفسه أو اختيار حكامه، لذا عارضوا أى نوع من الانتخابات الشعبية! وكلما ناقشوا نقطة جديدة حدثت انقسامات أكبر، إلا أنه تم حل كل الانقسامات عبر التسويات المتوازنة.
وبعد الانتهاء من كتابه الدستور، وبعد انتهاء عملية المصادقة عليه والتى استغرقت عاما كاملا، شعر الأمريكيون أن هناك غيابا لعنصر جوهرى، ألا وهو عدم حماية الدستور للحقوق الفردية. لذا فبمجرد عقد أول اجتماع للكونجرس فى تاريخ الولايات المتحدة عام 1789 بمدينة نيويورك، اتفق المشرعون على إدخال تعديلات عشرة على الدستور عرفت «بقانون الحقوق» Bill of Rights.
ارتكز الدستور الأمريكى على مبادئ وأسس عملية تدعم قيما سامية مثل سيادة الشعب، سيادة القانون، تغليب المصالح العامة. إلا أن مبدأى «الفصل بين السلطات» و«تقديس الحريات الفردية» مثلا أبدع ما توصل إليه الآباء المؤسسون.
أفكار مثل (كل الناس قد خُلقوا متساوين) وأن (خالقهم وهبهم حقوقا معينة لا يجوز التفريط بها) قد وضعت فى الصدارة كمطلب أمريكى منذ البداية، ولاحقا دعا ثوريون يسعون إلى كسر أغلال الظلم والطغيان، من أمريكا الجنوبية إلى أوروبا وإفريقيا إلى آسيا إلى نفس المبادئ.
الولايات المتحدة التى أطلقت تلك الأفكار الثورية إلى العالم عام 1776 لم تتردد إطلاقا فى عدم الالتزام بها فى حالات استثنائية متعددة، يشهد لها ما يتعلق بمصير الهنود الحمر، وظاهرة عبودية الأفارقة. بالإضافة إلى تجاوزات وجرائم معاملة الأمريكيين من أصل يابانى أثناء الحرب العالمية الثانية، ومعاملة العرب والمسلمين بعد أحداث 11 سبتمبر، كما كانت عمليات وأد الديمقراطية الشعبية فى إيران عام 1953، والتآمر ضد الديمقراطية الوليدة فى شيلى فى ثمانينيات القرن الماضى، تمثل انتكاسة كبرى للسجل التاريخى الأمريكى.
قد يكون من الصعوبة أن تطالب أحد الأصوات بأن نهتدى بالدستور الأمريكى بسبب العداء الشعبى الكبير المبرر للسياسات الأمريكية فى المنطقة العربية، إضافة إلى ما تمثله أمريكا من نموذج صارخ فى التاريخ الإنسانى لاستغلال اقتصادات الدول الأخرى، ففى الوقت الذى يشكل فيه الشعب الأمريكى ما يقرب من 5% من جميع سكان الأرض، فإنهم يبتلعون 40 % من كل الموارد الاستهلاكية فى العالم. إلا أن مبادئ الدستور الأمريكى ليست مسئولة عن إنتاج تلك السياسات.
مبدأ الفصل بين السلطات بصورته الأمريكية الصارمة هو ما قد نحتاج إليه فى هذه اللحظة من تاريخنا. يجب أن تختص السلطة التشريعية، ممثلة فى مجلس الشعب، عن تشريع القوانين والإجراءات، والموافقة على الميزانية العامة للدولة. أما السلطة التنفيذية، والتى تتكون من الرئيس المنتخب ومن مجلس الوزراء، فهى مسئولة بصورة أساسية عن تنفيذ القوانين المشرعة من البرلمان، أما السلطة القضائية، فتتمتع باستقلال كامل عن السلطتين السابقتين، وتقوم بالفصل فى النزاعات بين المواطنين أو المؤسسات.
ويعد مبدأ الفصل بين السلطات أهم مبدأ تحتاجه دولة لها تراث استبدادى كبير كالدولة المصرية. وإن أحسن تطبيق هذا المبدأ نكون قد ضمنا حسن سير مصالح الدولة وكذلك ضمان حريات الأفراد ومنع التعسف والاستبداد من أى سلطة. ويمنع الفصل بين السلطات ان لا تجتمع مختلف السلطات ــ سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة ــ فى قبضة يد شخصية وهيئة واحدة ولو كانت تلك الهيئة هى الشعب ذاته، أو كانت الهيئة النيابية ذاتها. ويصاحب مبدأ فصل السلطات وضع معايير موضوعية متوازنة للتعاون بين السلطات.
ومن حسن حظ ثورتنا المصرية أنها جاءت بدون أى دور كاريزمى لزعامة فردية أو أى دور استثنائى لإحدى القوى السياسية، لذا يجب ألا يوجد صوت مرتفع لرأى على آخر أو لجماعة أو حزب ضد أخرى.
ومن حسن حظ مصر أيضا أنه لا توجد اعتراضات حقيقية من قبل الأقليات فى مصر، سواء الدينية منها أو الفكرية، ضد الهوية الإسلامية الثقافية لمصر. القضية الحقيقية كما أفهمها هى مخاوف الأقليات من استخدام الدين، أو المادة الثانية من الدستور، لكبح حرياتهم الأساسية، سواء كانت هذه الحريات تتعلق بممارسة شعائر دينية مقدسة، أو بممارسة حريات خاصة تتعلق بالملبس والمشرب والمسكن، أو حريات التعبير بما فيها من حرية التعبير الأدبى والصحفى والفنى.
ومصر، التى تمر حاليا، كدولة وكثورة وكمجتمع، بمرحلة مخاض حرجة تتطلب منا النظر والاقتداء بتجارب دول نجحت ثوراتها ونجحت تجربتها الدستورية فى خلق إطار قانونى دستورى يحافظ على حقوق الجميع سواء مثلوا الأغلبية أو الأقليات. يشهد التاريخ من حولنا تجارب ثورية جاءت نتيجة وجود استبداد داخلى أو وجود احتلال خارجى، وبعد نجاح الثورات الشعبية لم يتحقق بالضرورة هدف إقامة دولة عدالة ومساواة وحريات ومؤسسات.
ما تحتاجه مصر الآن هو تطبيق لعدد محدود من المبادئ العالمية السامية مثل «الفصل بين السلطات» و«الحريات الشخصية» و«حقوق المواطنة» مع الالتزام بمنع طغيان الأغلبية، ومواجهة تعسف الأقلية، بما يحقق توازن مقبول بين الحاكمين وبقية الشعب المصرى فى الحاضر والمستقبل، وأن توفر ضمانا ضد أى استبداد الآن، ولعقود قادمة.