الرئيس يتهم المواطنين بأنهم لا يسمعون ما يقول المرؤوس يزعم أن الرئيس يتركه يتكلم وهو عن كلامه لا بغيره. الزوجة تتكلم والزوج بجانبها يهز برأسه دليلا على أنه يسمع وهو لا يسمع. الأطفال يشكون من أن أباهم يغضب قبل أن يسمع، ورب البيت يصرخ بأعلى صوت ويزمجر ويهدد لأن أحدا فى البيت لا يسمع. مقدمة البرامج ترفع الصوت لعل المسئول يسمع. وشيخ الجامع يخطب ويده على مفتاح مكبر الصوت ليتأكد من أن الناس الخاشعة فى سكون سوف تسمع. الشكوى عامة. وأخيرا وجدت من يدرسها ويعترف بأن الظاهرة تطورت فتدهورت إلى حد أنها صارت وباء يهدد العلاقات الاجتماعية، بل ونسيج المجتمع والوطن.
●●●
كنت أشارك فى اجتماع وأمامى وخلفى عشرات المدعوين للاستماع إلى خطاب سياسى مهم، عندما سمعت الموظف الكبير الجالس إلى جانبى يهمس فى أذن مساعده بأنه سعيد جدا لأن القاعة استمعت باحترام إلى خطاب السياسى الكبير. جلت بنظرى فى القاعة وتأكدت أن أكثر الحاضرين جلس يقرأ أو يلعب فى الآى باد أو الهاتف المحمول أو مع الكمبيوتر الراقد فى اطمئنان على حجره.
●●●
أسرت لى صديقة جامعية بأن عددا متزايدا من أساتذة الجامعات لم يعد يثق فى قدرة كثير من الطالبات والطلبة على استيعاب ما يسمعون فى المحاضرة. هم فى الشكل يسمعون، ولكن النقاش والحوار والتعقيبات التى تعقب المحاضرة تشير إلى أنهم وإن بدوا يسمعون فإنهم فى واقع الأمر لم يستفيدوا، بمعنى أنه لم تصل إلى عقولهم رسالة المحاضر. تجاسرت أستاذة وطلبت من طالباتها وطلابها التعليق على هذه الحالة، حالة مستمعين لا يتجاوبون. جاءها الرد سريعا وذكيا وصادقا من إحدى الطالبات. «معك كل الحق يا دكتوره، نحن جيل يتعرض لأسوأ نوع من أنواع التحرش، وهو تحرش الخطاب. مطلوب منا أن نسمع خطب الميدان وخطابات الرئيس والمسئولين الكبار وشجارات المثقفين والمفكرين فى التليفزيون، والهجوم اللاذع الذى يتبادله الركاب فى المترو والميكروباص، وسخرية الأهل اللاذعة من تصرفاتنا وأفكارنا، ومواعظ وخطب الأئمة ومذيعى المحطات الدينية ودروس سائقى التاكسى ونصائحهم وشكاويهم، كل هؤلاء انتهزوا فرصة آذاننا المفتوحة فانهالوا عليها. أغلب هؤلاء لم يستأذن. تعاملوا مع إحدى حواسنا الغالية كما يتعامل معها راكبى الدراجات البخارية وسائقى سيارات الميكروباص المزودة بماكينات دمار شامل صنعت خصيصا لتشويه البيئة وإفساد منظومة السمع لدى المواطن. علمنا هذا التحرش اليومى أن نسمع ولا نستوعب. كيف نستوعب وقد تشوهت منظومة السمع التى حبانا بها الخالق نظيفة وبريئة وطاهرة. كيف نستوعب وقد فقدنا القدرة على التمييز فيما نسمع بين الغث والسمين والكاذب والصادق والزائف والحقيقى والتمييز بين كلمات تغتصب وكلمات تدغدغ المشاعر.
●●●
نتيجة هذا التحرش أن الغالبية العظمى من الناس تسمع، لكنها لا تنصت. بمعنى آخر أغلب ما يُقال أمامنا نسمعه يخرج من أفواه وحناجر ويدخل إلى آذان ولكنه لا يصل إلى أى مكان. لا يصل إلى العقل لأننا رفضنا الانتباه، ومعنى أننا لم ننتبه أننا لم ننصت وتركنا الكلمات تتدفق لا نلقى لها بالا أو نتوقف عندها. نتوقف فقط عندما نقرر بإرادة مستقلة ورغبة حرة أننا نريد أن ننتبه لننصت ولننقل ما سمعنا إلى المخ ليأخذ مجراه حتى ينتهى بقرار. ساعتها، وساعتها فقط، نبدأ نتكلم. يظن بعض السامعين أنه بهزة من رأسه أو بإيماءة أو نظرة أو كلمة يستطيع الإيحاء للمتحدث بأنه أنتبه وأنصت ويخرج السياسى المتحدث مقتنعا بأن خطابه حظى بالاهتمام أو الانتباه ودليل هذا سكون القاعة وإيماءات عديدة وأحيانا أو كثيرا عاصفة من التصفيق. ما لا يعرفه ولن يبلغه به مرءوسوه أن سكون القاعة وإيماءات الرضا على وجوه الحاضرين والتصفيق لا يعنى بالضرورة أنهم انتبهوا فأنصتوا.
●●●
الإنصات، وليس السمع، هو الضابط لإيقاع المخ، قد نستمع ساعات إلى متحدث ولا تتحرك الأعصاب المتصلة بمنظومة السمع، ولكن الإنصات لثوانٍ معدودة يدفع بالطاقة إلى المخ لتبدأ العمليات الذهنية والعاطفية. لذلك ينصح المتخصصون بضرورة التدرب على الإنصات، «أنصت إلى الموسيقى وأنت تمارس رياضة المشى أو الجرى، حاول أن تنصت إلى نباح الكلب أو عوائه وتخمين الرسالة التى يحاول توصيلها إليك، إن كانت بكاء أم تحذيرا. مارس الإنصات إلى صوت الكلمات فللكلمة أصوات تختفى فى داخلها وتتغير مع المتحدث ومع المنصت ومع الموضوع ومع اللحظة»، كم من خطيب انتبهنا، أى أنصتنا، إلى كلماته فشعرنا بأنه يكذب أو يمثل. كشفه صوت الكلمة، أى موسيقاها. وما كان ممكنا أن نكتشفه لو كنا سامعين فقط ولم نكن منصتين.
●●●
حاسة السمع أم الحواس. نحن نسمع قبل أن نرى، يصلنا الصوت قبل أن نرى مصدره. تركتنا الطبيعة بآذان مشهرة ليل نهار تسمع ونحن نائمون ولا صوت يستطيع الإفلات منها، تركتها نهبا لتحرش الأصوات والكلمات بينما نصبت فوق عيوننا حراسا يغلقونها إن شاءت فلا ترى العيون ألا ما تحب أن ترى، تركتها آمنة من تحرش النظرة. كذلك يجب أن لا ننسى أننا فى العتمة لا نرى ولكن فى السكون نسمع. وحتى لا يُقال عن الطبيعة إنها تحيزت للبصر على حساب السمع فقد رتبت للمخ حاجزا يعفيه من الاستجابة لسخافات ما نسمع والاستمتاع بطعم الكلمات الناعمة وموسيقاها، خصصت له الانتباه أداة للإنصات ليميز بها بين الأصوات.