كانت صاحبتنا تعرف جيدا كيف تنسج العلاقات مع الآخرين وكانت تقدر لنفسها هذه الخاصية تماما. تلتقى أشخاصا لأول مرة وعلى وجهها ابتسامة كبيرة، تحفظ أسماءهم بسرعة، تصافحهم بحرارة، وتبحث عن المشترك معهم. لا تحمل رمزا دينيا مميزا، ويخلو حديثها من كلمات لاتينية، أما مظهرها فيضعها فى تلك الفئة التى تحبذها نساء كثيرات: فئة المرأة المحتشمة. لها سحر غامض يشعرك أنك تعرفها، تجدها مثلك وربما حتى تشبهك فترتاح إليها وتتبادل معها بطاقة التعارف أو رقم التليفون. لكن الحكاية ليست فقط هى حكاية الشكل الخارجى، لا.. فالموضوع أكبر من ذلك وصاحبتنا تتحلى أيضا بملكات خاصة، لا تنافس على ما يحوزه الآخرون، لا تكثر من استخدام ضمير المتكلم «أنا«، تستمع جيدا للآخرين، والأهم أنها لا تفشى سرا أبدا. غريب أن تُقنِع هذه السيدة الناس بأن يفضفضوا لها ثم لا تشركهم فى خباياها.
***
محظوظة إذن صاحبتنا بهذا الكم المعتبر من العلاقات والصداقات الذى تراكمه بدون مجهود يذكر، فقائمة المعارف المسجلة فى هاتفها تحت حرف الألف تكفى لتكوين مجتمع صغير، كما أنه لا بأس أبدا برصيدها من حَمَلة الأسماء التى تبدأ بحرف صعب كحرف القاف أو الزين. تضحك وهى تقول إن قائمة أسمائها المتنوعة تصلح للاختيار منها لأى مولود فى الطريق، ففى القائمة أسماء بسيطة ومركبة، قديمة وحديثة، عربية وغير عربية. هذه ميزة كبيرة إذن لا تتوفر لكثيرين غيرها فأين المشكلة معها وهى الإنسانة العابرة للاختلافات والديانات والعصور؟ تستقر سحابة القلق على جبينها فى اللحظة التى تعترف فيها بنقطة الضعف الأبرز فيها. إنها كما تكسب صداقاتها بسرعة تجمدها بسرعة، تبدأ مقبلة على الآخرين وتبادلهم السؤال بسؤال والاهتمام بمثله ثم.. تغمرها الحياة بمشاكلها وشواغلها فتنسى التواصل معهم ويفتر حماسها بالتدريج. وهكذا فمن الصحيح أن قائمة الأسماء التى تحتفظ بها طويلة جدا، لكن من الصحيح أيضا أن عدد العلاقات المستمرة مع هذه الأسماء محدودة.. بل إنها تنسى أحيانا الظروف التى أضافت فيها معظم هذه الأسماء إلى ذاكرة تليفونها وعبثا تحاول تذكرها حين تريد.
***
بهذه القدرة المتناقضة على كسب الآخرين وخسارتهم ارتحلت صاحبتنا إلى مدينة صغيرة فى قارة بعيدة حيث كل شيء فيها يختلف عن كل شيء تعرفه، الأولويات.. المشاعر.. قواعد المرور والحقيقة أن قواعد الحياة نفسها كانت تختلف. ومع ذلك فإنها ما لبثت أن دخلت فى القالب، وظفت قدرتها على احترام خصوصيات الآخرين وحققت من جرّاء ذلك نتائج لا بأس بها أبدا، ففى هذه القارة البعيدة يعيش أناس لا يحبون التطفل ولا الفضول، وهى اعتادت أن تقنع بما يفصح عنه الآخرون من معلومات دون أن تطلب المزيد، لماذا أصلا تطلب منهم المزيد؟ راق لأهل البلد الصغير فى القارة البعيدة احترام صاحبتنا النظام والمواعيد والالتزامات والاختلاف، وباختصار وجدوها مثلهم، نعم لها عيون سود وشعر مجعد ولكنة فى اللغة، لكنها تندمج فى حياتهم باضطراد ولا تسقط فى فخ نحن وأنتم.
***
هكذا طالت قائمة معارفها الجدد وتشعبت لكن سلوكها اختلف حيالهم. اكتشفت بعد عام من الغربة أنها لم تخسر أيا من هؤلاء المعارف فلا هى نستهم ولا هى تناستهم، بالعكس فإنها بدأت بآحاد منهم ثم بعشرات ثم توقفت عن العد. أكثر من ذلك صارت هى نقطة اتصال بين أشخاص لا يعرفون بعضهم البعض ثم تعارفوا من خلالها وتوطدت علاقة الجميع بالجميع، فلماذا احتفظت إذن فى الغربة بما فرطت فيه فى بلدها؟ شغلها هذا السؤال وحاصرها حتى إن لم تجد بدا من إجابته والجلوس على كرسى الاعتراف.. جلست وجاوبت.
فى مواجهةٍ مع ضميرها تردد صوتٌ داخلها يقول إن العلاقات الإنسانية ليست مثل الأعشاب العشوائية التى تنمو دون تدخل من أحد، العلاقات الإنسانية أشبه بنباتات الظل التى تتفتح فى النور وتحتاج لرعاية خاصة. كلنا اقتنينا فى فترات معينة بعضا من نباتات الظل وأكثرنا انشغل عنها فعاقبته وذبلت. هذا النوع من العقاب النبيل لن تجده إلا عند الزهور إذ تُمارس جلد الذات فى مواجهة إهمالها، تعبير جلد الذات ليس هو التعبير الأنسب فأدق منه الحديث عن قتل الذات. لكن ما دخل أنواع النباتات فى قصتنا هذه؟ دخلها أن صاحبتنا تعاملت مع علاقاتها فى الداخل كما لو كانت نوعا من الأعشاب العشوائية وتعاملت مع علاقاتها فى الخارج كما لو كانت لونا من ألوان نباتات الظل.
هى أدركت فى السفر أنه لا غنى لها عن الود الممدود وإلا أصبحت غربتها غربتين، غربة عن المكان وغربة عن البشر. هى كانت تعلم أن البرد سيهزمها وأن الوحدة ستهدها وأنها إن لم تزر وتهتم وتهادى فلن يهتم بها أحد.. لن يهتم بها أحد ؟ لحظة واحدة... هل هذا يعنى أن عشمها الزائد فى معارف الوطن وأصدقاء الوطن جعلها تطمئن إلى أنها إن لم تسأل فسيسألوا وإن لم تتصل فسيتصلوا ؟ نعم إلى حد كبير هذا صحيح، وبعبارة أخرى نستطيع القول إنها اعتبرت أنها مسئولة عن حماية علاقاتها فى الخارج أما علاقاتها فى الداخل فلا.
***
تكورت صاحبتنا على كرسى الاعتراف.. وتراءت لها نفسها كما هى لا كما تحب أن تُرَى، لن تستطيع بعد اليوم أن تدعى أن الحياة أنستها فلانا أو علانا فالواقع يقول إنها هى بنفسها التى كانت تقرر من تنساه ومن تذكره، وأن قرارها يرتبط إلى حد بعيد بالمصلحة.. بالمصلحة ؟ نعم بالمصلحة. زادت فى صراحتها فسألت هل هى تتلذذ بأن تُقرب إليها نفرا من البشر لتعود وتجافيهم ؟ هل لديها نزعات سادية ؟ أشفقت على نفسها من هذه الشيطنة.. لكنها لم تستطع أن تدفن رأسها فى الرمال وهذا أمر جيد على أى حال.