إيمان سحرة فرعون - بشير عبد الفتاح - بوابة الشروق
الأربعاء 25 ديسمبر 2024 3:44 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

إيمان سحرة فرعون

نشر فى : الإثنين 10 مايو 2021 - 7:15 م | آخر تحديث : الإثنين 10 مايو 2021 - 7:15 م
شأنه شأن نظرائه من الجاحدين بآيات الله، ظلما وعلوا، اعتبر فرعون المعجزات التى أيد بها المولى، عز وجل، نبيه موسى سحرا بواحا. ولما كان كثير من قبط مصر فى ذلك الزمان، أربابا لهكذا أفاعيل، قرر الطاغية المتجبر اختزال الأمر فى مقارعة موسى وأخيه هارون بالسحر.ودونما إبطاء، استدعى فرعون عتاة السحرة من شتى أصقاع مملكته، وضرب موعدا للمنازلة يوم الزينة؛ حيث يُحشر الخلق من كل حدب وصوب، ظانا أن دحر سحرته لموسى، على رءوس الأشهاد، سيكون كفيلا بتقويض دعوته إلى الإيمان بتوحيد الألوهية، وترميم الثقة المتصدعة بتراهات الربوبية الفرعونية المزعومة.
ما بين سبعين رجلا وعشرات الآلاف، تنوعت آراء العلماء وتعددت روايات المؤرخين بشأن تعداد السحرة الذين حشدهم فرعون لمعارضة موسى عليه السلام. ففى حين روى ابن أبى حاتم، كما نقل السيوطى فى موسوعته التفسيرية المعنونة «الدر المنثور فى التفسير بالمأثور»، عن ابن عباس، رضى الله عنه، أن عددهم لم يتجاوز سبعين رجلا فقط، ذكر الإمام بن كثير فى مؤلفه «البداية والنهاية»، أنهم كانوا ثمانين ألفا، وقيل سبعين ألفا، أو بضعة وثلاثين ألفا. فيما ذهب أبو أمامة، إلى أنهم كانوا تسعة عشر ألفا، بينما قال محمد بن إسحاق: خمسة عشر ألفا، وكعب الأحبار: اثنا عشر ألفا. لكن أبا الشيخ أخرج عن ابن جريج، أن السحرة كانوا ثلاثمائة من قرم، وثلاثمائة من العريش، مع احتمال وجود ثلاثمائة آخرين من الإسكندرية.
ذاع صيت سحرة فرعون لجهة براعتهم وتميزهم فى مهنتهم، التى كانوا يعتاشون منها، لدرجة أن المولى، تبارك وتعالى، أشاد بأدائهم خلال منازلتهم موسى وهارون، بقوله تعالى فى الآية 116 من سورة الأعراف: «فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم»، حتى أن شيئا من الخوف قد تسلل إلى قلب نبى الله موسى هو الآخر، حينئذ، حسبما أورد المولى، عز وجل، فى الآية 67 من سورة طه: «فأوجس فى نفسه خيفة موسى قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى». وهو ما يفسره الإمام بن كثير، بأن موسى خشى أن يفتن السحرة جموع الحاضرين بسحرهم المبين، قبل أن يأتى دوره ويلقى بما فى يمينه، فيغدو ثعبانا عظيما حقيقيا، يلقف كل ما يأفكونه من أباطيل سحرهم.
ثقة منهم فى حسم المعركة لصالحهم، لم يتردد السحرة أو يتقاعسوا فى تلبية دعوة فرعون لمواجهة موسى، حتى أنهم توسلوا منه جزيل العطاء حالة فوزهم بالمنازلة وقهرهم موسى وسحره المزعوم، حسبما جاء فى الآية 113 من سورة الأعراف: «قالوا إن لنا لأجرا أن كنا نحن الغالبين»، فما كان من فرعون إلا أن أجج حماستهم واستنهض هممهم من خلال وعدهم بعظيم الجزاء وتقريبهم إلى مجلسه، ورفع شأنهم بين الناس، مثلما ورد فى الآية 114 من السورة ذاتها على لسان فرعون: «قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِين»، وكما قال تعالى فى موضع آخر بالآية 40 من سورة الشعراء: «لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين». ولم يكن ولاء السحرة لفرعون حتى مقارعتهم موسى، مثار جدل أوتشكيك، فبموازاة نسبهم إليه باعتبارهم «سحرة فرعون»، كان قسمهم بعزته، أنهم بمهارتهم ودهائهم، قاهرون لموسى وهارون فى نزال السحر. حيث أورد سبحانه على لسانهم فى الآية 44 من سورة الشعراء: «قالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون».
من جهته، آثر موسى إقامة الحجة على السحرة، حينما استبق المواجهة بوعظهم ونصحهم بالعدول عن تحدى الإرادة الإلهية من خلال سحرهم المفترى، وحينما لم يرتجعوا، ترك لهم أسبقية البدء. فما إن ألقوا ما بأيديهم من حبال وعصى، حتى تراءت أفاعى تخيف الناظرين وتدهش المجتمعين. وحينما جاء الدور على موسى، ألقى عصاه، فإذا هى حية عظيمة تروع الحضور، وتقبل على ما اختلقه السحرة مما خُيل للناس وكأنه هوام تتحرك، فجعلت تلقفه واحدا تلو الآخر، فى همة وسرعة ترقبها جموع المحتشدين فى فزع وذهول.
أما السحرة، فكان وقع ما جرى عليهم جد خطير. فما إن هالهم ما رأوا من أمور، يعلمون علم اليقين، أنها ليست ضربا من السحر، حتى أنابوا إلى خالقهم وخروا له سجدا، مشهرين إيمانهم برب موسى وهارون. فهنالك، تجلت أبرز مظاهر حكمتهم فى القدرة على التمييز ما بين السحر والمعجزة الإلهية، التى تؤيد رسل الله وتعزز صدق أنبيائه. ومن ثم، لم يترددوا فى الاعتراف بهزيمتهم أمام ما يتحصن به موسى من مؤازرة ربانية، والإقرار بأنها مدد من قوة خارقة تتخطى قدرة البشر المحدودة. حيث يقول تعالى فى الآيتين 46، و47 من سورة الشعراء: «فألقى السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون». وتأكيدا لصدق إيمانهم، تبرأ السحرة من الضلال الذى كانوا عليه فيما مضى، طالبين العفو والصفح من ربهم الغفور؛ حيث ذكر الحق على لسانهم فى الآية 51 من السورة ذاتها: «إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين».
ومثلما كان متوقعا، استشاط فرعون غضبا جراء ذلك الخطب الجلل. وفى مسعى منه لردع الناس عن الافتتان بالحادثة واتباع السحرة فى إيمانهم بإله موسى، حاول دحض أسانيدهم، مدعيا أن موسى لم يهزمهم فى معركة السحر لأنه نبى مؤيد من لدن الإله الحق، مثلما ظنوا، ولكن لأنه زعيمهم الذى علمهم السحر. كما هددهم بتقطيع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وصلبهم فى جذوع النخل، ليكونوا عبرة لمن تسول له نفسه اتباعهم. ورغم نجاح فرعون فى ترويع الناس من موالاة السحرة، إلا أنه أخفق فى إرجاعهم عن إيمانهم. فبينما لم يصدهم تهديده ووعيده عن طريق الهداية، لم يزدهم إلا تمسكا بالإيمان وثباتا على الحق، مثلما ذكر ربنا، جل وعلا، فى الآية 72 من سورة طه: «قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ ۖ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِى عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ ۖ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِى جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى». ففى مقابل هذا الترهيب، جاء رد السحرة قويا قاطعا، مؤكدين لفرعون أنهم لن يشتروا بآيات الله ثمنا قليلا، ولن يبيعوا دينهم بدنياهم؛ حيث أورد ربهم على لسانهم فى الآيتين 72 و73 من نفس السورة: «قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِى فَطَرَنَا ۖ فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ ۖ إِنَّمَا تَقْضِى هَـٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا.إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ ۗ وَاللَّـهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى».
بالله الواحد القهار، الذى أنابوا إليه، استعان السحرة فى تحديهم لفرعون وملأه، فكان أن أظلهم المعين الربانى والعون الإلهى. ويؤيد هذا قولهم فى الآية 126 من سورة الأعراف: «ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين»، فكانت النتيجة أن استجاب الله دعاءهم فغدوا بنعمة منه وفضل، مؤمنين شهداء؛ حيث أورد بعض المفسرين والرواه من أمثال سعيد بن جبير، وعكرمة البربرى، والأوزاعى، وغيرهم: أن السحرة لما آمنوا بربهم، وخروا له ساجدين، وطلبوا منه الصفح عما فات، كشف  لهم منازلهم فى الجنة، فرأوها رأى العين، تتهيأ لهم وتتزخرف لقدومهم، ومن ثم، لم يلتفتوا إلى ما أمطرهم به فرعون من تهديد ووعيد بالويل والثبور وعظائم الأمور، وإنما ازدادوا هدى ويقينا فى مواجهة القمع الفرعونى. وفى هذا، يقول بن عباس رضى الله عنه: كان سحرة فرعون أول نهار يوم الزينة مناوئين كفرة، ثم انقلبوا آخر ذلك النهار مسلمين شهداء بررة، وتلك منزلة تبلغوها بالإذعان لنداء الحق والإخلاص للخالق، دونما اكتراث للبطش الفرعونى.
من قناعة ذاتية ويقين لا يتزحزح، انبلج إيمان سحرة فرعون، إذ لم يسبق لهم مصاحبة نبى الله موسى ليهتدوا من خلاله إلى الله ويتعرفوا على دينه، فقد عاشوا طوال حياتهم على الضلال والإلحاد وإيذاء الخلائق. لكنهم وبمجرد اكتشافهم للحق، تشبثوا به وصدعوا بإيمانهم تحديا لجبروت فرعون. ورغم أنه كان بمقدورهم منافقته وممالأته تلافيا لشره، أو حتى اتباع منهج التقية وكتمان الإيمان، طمعا فى مغانم أو درءا لمخاطر، أسوة بما فعل مؤمن آل فرعون، إلا أن إخلاص السحرة وصدق نيتهم كانا أقوى من أى نزوع لتجنب الإيذاء الفرعونى، أو التعلق بأى عرض دنيوى زائل. هكذا إذا، لم تستتبع شجاعة السحرة فى إيمانهم بربهم فيض عبادات، إذ لم يكن منهم سوى سجدة وحيدة، صادفت رحمة الله ورضوانه، فحطت عنهم أوزار الشرك وموالاة الطواغيت، وأورثتهم حسن الخاتمة؛ حيث الفوز العظيم والسعادة الأبدية.
التعليقات