خطاب أوباما.. الخاسر الأكبر - جميل مطر - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 5:56 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

خطاب أوباما.. الخاسر الأكبر

نشر فى : الخميس 10 يونيو 2010 - 9:29 ص | آخر تحديث : الخميس 10 يونيو 2010 - 9:29 ص

 يوجد احتمال أن يكون نتنياهو وباراك أخطآ فى بعض حساباتهما عندما قررا مع غيرهما الصعود أو الهبوط مع ريح السماء إلى بواخر قافلة الحرية. يوجد احتمال آخر، أن يكونا قد خططا بدقة ولم يرتكبا أخطاء وجاءت النتائج أقرب ما تكون إلى الأهداف الموضوعة للخطة.

أميل بالحس والطبع إلى الاحتمال الثانى ليس إيمانا بنظرية المؤامرة، وإن كنت أعترف بأننى مع غيرى من الذين وقع على عاتقهم ذات يوم الإسهام فى صنع سياسة أو قرار سياسى اشتركت فى التآمر، بمعنى من المعانى، ضد دولة عدو. لم أعرف وقتها أننى كنت متآمرا. عرفت فقط حين تبدلت أولويات المصالح القومية فصارت الخطة التى وضعناها قبل سنوات للإضرار بمصالح دولة عدو تتناولها فى عهود أخرى أقلام مصرية معينة بالانتقاد والتسفيه باعتبارها مؤامرات.

أميل إلى احتمال أن يكون الإسرائيليون خططوا جيدا لتحقيق نتائج قريبة الشبه جدا من النتائج الفعلية التى أسفرت عنها الحملة. أميل إلى هذا الاحتمال ربما تحت تأثير تجاربنا السابقة مع إسرائيل ومع نتنياهو تحديدا، وربما استنادا إلى متابعتى مسلسل التطورات الأخيرة فى إسرائيل.

فى تصورى أن الصعود الرهيب لقوى اليمين الإسرائيلى وأفكاره خلف لدى الإسرائيليين شعبا وحكومة ولدى القيادات المتطرفة فى الجاليات اليهودية فى الخارج اعتقادا بأنه ربما آن الأوان أن تقفز إسرائيل قفزات واسعة لعبور المرحلة النهائية فى مسيرتها نحو استكمال الاستيلاء على معظم فلسطين وفرض هيمنتها على الإقليم وترسيخ نفوذها فى العالم.

ولماذا الانتظار؟ لقد تحققت لإسرائيل، كما يعرف محللون عرب كثيرون، الهيمنة على الحيز الرسمى العربى وصارت لها كلمة تؤثر بها فى معظم علاقات الحكومات العربية فيما بينها، وبينها وحكومات دول أخرى مثل الولايات المتحدة ودول أعضاء فى الاتحاد الأوروبى. حدث هذا بعد أن تعزز نفوذها فى معظم العواصم العربية المهمة.

لم تعد توجد دولة عربية، أو عدة دول عربية، أو الدول العربية مجتمعة فى قمم عقدت بالفعل فى القاهرة أو طرابلس أو الدوحة، تجرؤ على التصدى لهذه الهيمنة أو تقوى على تكبيل هذا النفوذ. وبالفعل صارت تصدر وبكثرة عن مسئولين عرب تهديدات جوفاء وقرارات منزوعة الأنياب وبيانات حروف كلماتها أكثر عددا من كل جنود العرب وطائراتهم ودباباتهم.

لا يخالجنى شك كبير فى أنه بالانتهاء من مهمة فرض إرادتها على النظام الرسمى العربى، شعرت إسرائيل بأن الوقت حان لتتولى أمر «منطقة الجوار العربى». كان لازما تأليب العرب على إيران وتركيا وغرس الوقيعة بين مصر تحديدا وكل أهل الجوار وليس فقط الإيرانيين والأتراك. قضينا شهورا كنا فيها شهودا على جهود دولية وإقليمية وعربية تبذل لتعبئة الرأى العام العالمى استعدادا لعمليات عسكرية ضد إيران وعمليات سياسية ضد تركيا.

وقبل شهور كنا فى استانبول عندما أبلغنا مسئولون وأكاديميون أتراك أنهم يتعاملون مع التطورات الإسرائيلية بكل الجدية، وعرفنا أيضا، وهو الأهم، أنهم قرروا تصعيد مواقفهم وسياساتهم الإقليمية والدولية لحرمان إسرائيل من استغلال حال الإحباط العربى وفراغ الإقليم.

أذكر أننا خرجنا بانطباع أن دولا عربية كبيرة أعربت لتركيا عن طريق أجهزتها الدبلوماسية والإعلامية عن تبرمها أو خشيتها من المتغير التركى الذى يمكن أن يؤدى إلى تغيير فى الوضع القائم فى المنطقة.

فى الوقت نفسه كانت إسرائيل تبعث برسائل عديدة إلى إيران تحذرهم من أنهم لن يفلتوا من عقوبة صدر القرار فيها بسبب إصرارهم على تطوير قدراتهم العلمية والتكنولوجية. كذلك وصلت رسائل، وإن من نوع آخر، إلى الأتراك. بدأ وصول هذه الرسائل منذ الأيام الأولى فى حكومة حزب العدالة والتنمية، وتكثفت مع تجدد المحاولات التركية للاتصال بالسوريين والفلسطينيين.

لم يكن فى قصد الأتراك أن يزايدوا حين تعاطفوا مع أهل الجنوب فى لبنان خلال العدوان الإسرائيلى بينما كانت دول عربية تراهن على القضاء على جميع إمكانات المقاومة، ولم يقصد الأتراك المزايدة عندما توسطوا بين السوريين والإسرائيليين وعركوا مكر حكام إسرائيل ونواياهم العدوانية ضد سوريا ولبنان. علق فى ذلك الحين معلق غربى بأن تركيا أخطأت فى حق نفسها وتحالفها التقليدى مع إسرائيل عندما كشف بعض المسئولين فيها قدر الخداع الذى يمارسه الإسرائيليون فى مفاوضاتهم مع العرب.

وبمرور الوقت وباتضاح العزم التركى على وقف الانهيارات السياسية فى النظام العربى ومنع إسرائيل من الانفراد بالنفوذ أصبحت لدى الإسرائيليين دوافع أكثر لفتح النيران اليهودية على تركيا. نذكر غضب إسرائيل، وجالياتها فى الخارج حين خرج اردوجان غاضبا من حوار فى دافوس كان شيمون بيريز رئيس إسرائيل مشاركا فيه. أذكره ليس بسبب ردود الفعل فى إسرائيل ونيويورك وبين الجاليات اليهودية وممثلى الدولة الغربية وبخاصة دول حلف الأطلسى وكلها اعتبرت سلوك اردوجان انحرافا عن نمط تعود عليه المسئولون فى عديد الدول وهو التغاضى عن إهانات اسرائيل وتجاوزاتها، ولكن أذكره لأننى اكتشفت فى ذلك اليوم، نفس ما اكتشفه اردوجان عقب عودته إلى بلاده، ورد فعل الشارع التركى. كان ظنى أن الغضب على إسرائيل فى تركيا، إن وقع، لن يخرج عن دائرة صغيرة من دوائر الرأى العام ولن يتجاوز عمقه عمق قشرة على سطح الحياة السياسية التركية، فإذا به متجذر وعميق ومنتشر.

تدرج متصاعدا الانتقام الإسرائيلى. لم يكن انتقاما عشوائيا أو غير مخطط. عرف الإسرائيليون، ونعرف نحن أيضا، أن الأتراك ما كانوا ليغفروا لإسرائيل الإهانة التى وجهتها لسفيرهم. كان واضحا أيضا أن الإسرائيليين تعمدوا تصعيد التوتر مع تركيا على أمل أن يضيق العسكريون الأتراك ذرعا بحكومة مدنية تطاردهم وتهدد مسلماتهم الأمنية التى نشأوا عليها فى عصر الحصار الأمريكى على الاتحاد السوفييتى.

وتعمدوا التصعيد على أمل أن تستعيد الحكومة التركية «رشدها» فتتخلى عن مشروعها «العربى»، وربما على أمل أن تضغط دول الاتحاد الأوروبى فيتراجع أردوجان عن التعاطف مع الفلسطينيين.

على الجانب الآخر بدا أن حكومة أنقرة لن تتراجع وستواصل تعاطفها مع الفلسطينيين فى غزة واختارت دعم قافلة الحرية ورفضت الانصياع للضغوط الدولية والعربية التى بوشرت فى محاولات مكثفة لتثنى أنقرة عن دعمها القافلة. واختارت إسرائيل خطة التدخل العسكرى ضد القافلة وبدا واضحا لبعضنا على الأقل أنها أطلعت أمريكا وحلفاء آخرين على خطتها، ولكنها لم تنتظر موافقة، رأينا ردود فعل الدول التى استشارتها إسرائيل وأغلبها لم تنكر بأنها كانت تعرف.

سمعنا مندوب أمريكا فى مجلس الأمن وشاهدنا جو بايدين فى برنامج حوار روز، ورأينا الرئيس الأمريكى الغارق حتى رأسه فى «زفت» خليج المكسيك يتحدث من شاشة CNN، وسمعنا تصريحات من قادة أوروبيين وفجعنا بمواقف من مسئولين عرب، لا تنفى إلى أن استشارات وقعت قبل تنفيذ عملية القرصنة وأن وعودا بذلت لتحجيم الصدى وتقييد الإعلام وحرمان كل من غزة وتركيا من جنى ثمار انتصار سياسى أو إعلامى.

عام كامل انقضى منذ أن وقف أوباما على مسرح جامعة القاهرة يخطب ود الشعوب الإسلامية. كان خطابا عاطفيا ومؤثرا وبالفعل حقق لأوباما شعبية وخفف من كراهية العرب المسلمين لأمريكا، هذه الكراهية التى بلغت أوجها على أيدى الرئيس بوش وسياساته العدوانية فى أفغانستان والعراق ودعمه توسع إسرائيل وحروبها المذلة للعرب والمسلمين. انقضى عام لم يحقق فيه أوباما خطوة واحدة إيجابية تحسب له على صعيد وقف النشاط الاستيطانى الإسرائيلى أو تحجيم عنف إسرائيل وغطرستها أو وقف أعمال العنف العشوائى ضد المدنيين فى أفغانستان أو وقف أنشطة القوات الخاصة فى أراضٍ يسكنها عرب ومسلمون فى أفريقيا والشرق الأوسط وآسيا.. عادت الكراهية تزحف إلى عقول العرب والمسلمين وتؤثر فى عواطفهم تجاه أمريكا وعاد اليأس من عدالة أمريكا إلى مكانه فى الوعى العربى.

سمعت مواطنا يريد من أمريكا أن تلعب دورا غير منحاز. يقول إنه حزين فى الحالتين، حالة أوباما الذى كان على علم بخطة نتنياهو وعندما انتهت تطوع للدفاع عنها وكأنه يريد أن يقول لكل العرب والمسلمين إنه برىء من خطابه الذى ألقاه فى العام الماضى فى جامعة القاهرة.

وحزين فى حالة أوباما الذى وصلت إدارته إلى درجة من الضعف تجاه إسرائيل جعلت إسرائيل ترتكب هذه الجريمة غير مكترثة باحتمال أن يغضب فيعاقبها. هذا الأوباما أو ذاك لا يستحق الحب الذى أحاطته به شعوب المسلمين عقب إلقائه خطاب تركيا ومن بعده خطاب مصر. حزين هذا المواطن. أفضل له ولنا أن يبحث عن شعور آخر غير الحزن واليأس.

خسر العرب فى معركة الرأى العام الدولى لرفع الحصار عن غزة ولكن لا خسارة عربية جديدة صارت تؤثر بينما فاقت الزيادة فى مكانة تركيا ما كان متوقعا ودشنت الأحداث مرحلة إقليمية جديدة. أما إسرائيل فلم تخسر كثيرا، خططت ونفذت مطمئنة إلى مساندة عواصم غربية وعربية. الخاسر الأكبر هو خطاب أوباما فى جامعة القاهرة بعد أن انكشف أن الرجل أضعف مما قدرنا أو أن الخطاب كان أكبر من الرجل.







جميل مطر كاتب ومحلل سياسي