مثلت حقبة الملك فاروق آخر فترات العهد الملكى (١٩٣٦ــ١٩٥٢)، فكتب القدر لفاروق أن يكون الملك الأخير فعليا لمصر قبل أن تقوم حركة الضباط الأحرار بإنهاء الملكية وإنشاء الجمهورية المصرية المعاصرة.
ولد فاروق فى ١١ فبراير ١٩٢٠ وكان فى بريطانيا وقت وفاة والده الملك فؤاد، ورغم توليه الحكم فى ٦ مايو ١٩٣٦، إلا أن عمره لم يكن قد بلغ سن الرشد بعد، فظل لمدة عامين تقريبا يحكم تحت مجلس وصاية شكله البرلمان المصرى برئاسة الأمير محمد على وبعضوية على عزت وشريف صبرى (خال الملك فاروق).
تتعدد التقييمات التاريخية لفترة حكم فاروق والتى زادت قليلا عن ١٦ عاما، فهناك من المؤرخين من يرى فى الملك شرا خالصا، فهو ملك فاسد، موال للاحتلال البريطانى، عاش حياة اللهو واللعب ولم يلتفت لمصالح الشعب، وهناك من يرى أن الملك كان محببا للشعب وخصوصا الطلبة والعمال، وأنه تصادم مع البريطانيين من أجل المصالح المصرية، بينما ترى تقييمات أخرى أنه كان ثعلبا سياسيا، أظهر عكس ما بطن، وساهم فى إنشاء الحركات الفاشية أو الدينية مثل مصر الفتاة والإخوان المسلمين من أجل القضاء على منافسيه السياسيين وخاصة من حزب الوفد!
•••
الحقيقة أن الملك فاروق لم يكن يملك من أمره الكثير وذلك لأربعة أسباب رئيسية:
السبب الأول: هو صغر سن الملك وقت توليه الحكم، والذى لم يتسبب فقط فى حكمه عن طريق مجلس الوصاية كما أوضحنا أعلاه، ولكن حتى وبعد انتهاء عمل مجلس الوصاية فهناك مؤشرات عدة أن الملك ظل معتمدا على بعض الشخصيات المحيطة به فى اتخاذ القرارات مثل خاله شريف صبرى، ورئيس ديوانه (لاحقا زوج أمه) أحمد حسنين، وكذلك على ماهر باشا... إلخ.
أما السبب الثانى: فقد تمثل فى استمرار الاحتلال البريطانى الذى ظل المتحكم الرئيسى فى الحياة السياسية المصرية داخليا وخارجيا، ورغم أن الملك فاروق قد شهد توقيع اتفاقية ١٩٣٦ وإن كان لم يكن له دور كبير فى صنع بنودها، إلا أن الاتفاقية فى النهاية لم تفض إلى الكثير من الاستقلال كما كان متوقعا بل ظل الأمر اسميا.
وتمثل السبب الثالث: فى اندلاع الحرب العالمية الثانية والتى كانت إحدى أسخن رقع مواجهتها فى منطقة الشرق الأوسط وخاصة مصر بسبب صراع دول المحور (ألمانيا وإيطاليا) ودول التحالف (بريطانيا وفرنسا) على التحكم فى قناة السويس. وبسبب هذه الحرب فقد خسر الملك فاروق أى سيادة حقيقية داخليا أو خارجيا، فظروف الحرب والمواجهات الحربية جعلت القصر طرف ثان فى صنع القرارات السياسية.
فيما تمثل السبب الرابع والأخير فى انصراف فاروق فى نهاية فترة حكمه وتحديدا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية عن أهم أعمدة حكمه (العمال والطلاب) وانعزاله عن الشعب مما تسبب فى تدهور سريع لشعبيته حتى تم خلعه عن الحكم.
•••
بشكل عام كانت فترة فاروق غير مستقرة، ففى عهده قامت التنظيمات السرية وكثرت الاغتيالات السياسية، كذلك فقد تميزت فترة حكمه بانعدام استقرار السلطة التنفيذية حيث تشكل فى عهده ٢٣ وزارة، بعضها لم يبلغ عمره سوى عدة أسابيع أو أشهر على الأكثر، وبسبب مواجهاته المستمرة مع حزب الوفد، وكذلك مع قدامى السياسيين المصريين، فقد عمد فاروق إلى تشكيل حكومات أقلية لا تعكس الأغلبية البرلمانية عكس المنصوص عليه دستوريا مما تسبب فى مواجهات دائمة بينه وبين البرلمان أيضا!
كانت واحدة من أهم الحوادث التى أثرت على علاقة الملك فاروق ببريطانيا من ناحية والبرلمان والحكومة من ناحية ثانية هى حادثة فبراير ١٩٤٢، حيث تمكن الألمان من هزيمة بريطانيا فى الصحراء الغربية على يد القائد رومل، مما أدى إلى اندلاع مظاهرات شعبية تؤيد المحور وتحتفى برومل وتطالب بسقوط الملك جورج والاحتلال البريطاني!... هناك آراء مختلفة حول أسباب هذه المظاهرات، فقد اتهم الملك حزب الوفد بتأجيجها وذلك لإثارة مخاوف بريطانيا ودفعها لتأييد الوفد فى صراعه مع الملك، بينما اتهم الوفد الملك بإثارة هذه المظاهرات كونه يميل لدول المحور ويرغب فى التخلص من بريطانيا، بينما ذهب فريق ثالث لاتهام بريطانيا نفسها بإثارة هذه المظاهرات للإيحاء بعدم سيطرة الملك على زمام الأمور ودفعه إلى المزيد من التنازلات. وأيا ما كان الأمر، فإن هذه الحادثة قد أضعفت من الموقف السياسى لفاروق كثيرا؛ فعلى إثر هذه المظاهرات طالبت بريطانيا الملك بإقالة حكومة سرى (حكومة أقلية)، وتعيين حكومة جديدة برئاسة الوفد، فيما ماطل الملك فى هذه المشاورات وحاول الدفع باتجاه تشكيل حكومة ائتلافية، مما دفع البريطانيين لمحاصرة القصر بالدبابات مخيرين الملك بين التنازل عن العرش أو تعيين حكومة وفدية برئاسة النحاس باشا فاختار الملك الحل الأخير مضطرا لتشكيل الحكومة!
بعد هذه الحادثة ازدادت حدة المواجهات بين الملك وبين حزب الوفد؛ فقد اتهم الملك من خلال على ماهر باشا حزب الوفد بالوصول إلى الحكم على أسنة رماح بريطانيا، كما اتهم الوفد الملك بمحاولة اختراقه وتبادل الطرفان الاتهامات بالعمالة لبريطانيا، وحاول كلاهما الحصول على تأييد الشعب والتقرب من المؤسسات الدينية وعلى رأسها الأزهر. والمؤكد أن النتيجة الوحيدة لهذا الصراع الذى استمر حتى نهاية عهد فاروق لم يكن لصالح أيهما، بل أدى فى الأخير إلى المزيد من عدم الاستقرار وتعطيل عمل السلطة التنفيذية، مما أثر أيضا على الخدمات العامة ولاسيما الصحة والتعليم، وكلها أمور عجلت بسقوط فاروق لاحقا.
•••
بيد أننا وقبل أن نطوى صفحة الملك فاروق لابد أن نذكر ثلاث استراتيجيات هامة قد اتبعها فى صراعه المستمر مع الوفد وبريطانيا لتوطيد حكمه، ورغم أن هذه الاستراتيجيات لم تنفعه كثيرا إلا أن تأثيرها امتد لما بعد قيام الجمهورية المصرية. تمثلت الاستراتيجية الأولى فى دعمه للقومية العربية، بينما تمثلت استراتيجيته الثانية فى دعمه للتنظيمات السرية ولاسيما ما سمى بالتنظيم الحديدى، بينما تمثلت استراتيجيته الثالثة فى محاولة طرح نفسه كزعيم للوحدة الإسلامية!
أما عن استراتيجيته الأولى فقد تمثلت فى دعوته ورعايته لمحادثات الإسكندرية مستغلا الموافقة البريطانية على إنشاء جامعة الدول العربية، ومن ثم محاولته طرح نفسه كزعيم عربى قومي! ولعل الحدث العروبى الأهم فى تلك الفترة تمثل فى قيام الجيش العربى بمحاولة تحرير فلسطين بعد قيام إسرائيل وهى المحاولة التى فشلت عسكريا وتحمل فاروق ثمن فشلها سياسيا!
أما عن الاستراتيجية الثانية، فهى أيضا لم تنفع فاروق كثيرا، فقد استمال فاروق ومن حوله بعض العسكريين من أجل إنشاء تنظيم حديدى تكون مهمته تنفيذ سلسلة من الاغتيالات ضد أى شخص يريد الإيقاع بالملك، ولم يؤد هذا التنظيم إلا إلى المزيد من عدم استقرار حكمه!
بينما تمثل رهانه الثالث والأخير فى الزعامة الإسلامية على ثلاث مرتكزات، الأول التحالف مع جماعة الإخوان المسلمين واستمالتها ناحيته حيث دعم مرشدها حسن البنا الملك صراحة، ونسب للبنا قوله فى مدح سياسات فاروق الداعمة للوحدة الإسلامية «يضمن ولاء ٤٠٠ مليون مسلم فى آفاق الأرض، تشرئب أعناقهم، وتهفو أرواحهم إلى الملك، الذى يبايعهم على أن يكون حامى المصحف، فيبايعونه على أن يموتوا بين يديه، جنودا للمصحف»! بينما تمثل المرتكز الثانى على التحالف مع حزب مصر الفتاة، وهو الحزب الذى دعم الملكية والوحدة الإسلامية معا، ثم جاء المرتكز الثالث والأخير فى تقارب القصر من الأزهر والشيخ المراغى لاستغلال ما تمتع به الأخير من ثقل داخلى وخارجى فى دعم صورة الملك الإسلامية، بيد أن كل هذه الاستراتيجيات لم تؤد فى الأخير إلى ما سعى إليه الملك، ولكنها شكلت إرهاصات الحياة السياسية بعد انتهاء الملكية وقيام الجمهورية المصرية فى ١٩٥٢.
أستاذ مساعد زائر للعلاقات الدولية بجامعة دنفر