لم أسمع أو أقرأ أن ونستون تشرشل أو كليمنس ميترنيخ أو جوزيبى غاريبالدى أو أوتو فون بسمارك أو شارل ديجول راح، بعد أن أنهى مهمته أو تخلى عن وظيفته، يلف على دول العالم يعرض نفسه على حكامها ومترفيها للعمل عندهم مستشارا أو خبيرا للعلاقات العامة. الآن نسمع ونقرأ عن زعماء ورجال دولة سابقين خدموا فى قمة السلطة فى دول عظمى لسنوات غير قليلة، يعملون الآن بالساعة أو اليوم لقاء أجر أو مكافأة، أو يتعاقدون لمدد أطول كخبراء اتصال ووسطاء ومرطبى أجواء وكاتمى أسرار.
●●●
نعرف عن رؤساء جمهورية وسياسيين كبار فى الولايات المتحدة تعاقدوا مع حكومات دول أصغر فور خروجهم من السلطة. قد لا يرى كثيرون أن مثل هذا التصرف سلوك معيب. يقولون إننا نعيش فى عصر زاد فيه خضوع البشر والعقائد والقيم كافة لبريق المادة، وبخاصة بين هؤلاء الذين أعماهم بريق النفوذ والسلطة. لم يعد مثيرا للانتقاد مثلا قبول هنرى كسينجر أو جيمس بيكر أو غيرهما من كبار المسئولين الأمريكيين تقديم استشارات وكتابة تقارير لحكومات أجنبية لقاء مبالغ مادية.
الغريب فى الأمر أن دولا كثيرة، ومنها الدول ذاتها التى تشترى هذه التقارير والمعلومات «السرية» والاستراتيجية تحرم على دبلوماسييها وقادتها العسكريين العمل فى نشاط مماثل بعد خروجهم من الخدمة. تفترض هذه الدول أنه ما زال لدى هؤلاء القادة من الدبلوماسيين والعسكريين مخزون من المعلومات الدقيقة التى لا يجوز أن تنتقل إلى مسئولين فى دولة أخرى.
●●●
يبدو على كل حال أن عائد هذا النوع من العمل صار مجزيا، وبخاصة فى ظروف الوفرة النفطية والنقدية فى العالم العربى، إلى حد أن كثيرين من رجال الدولة فى أمريكا باتوا يرتبون خلال وجودهم فى وظائفهم الرسمية علاقات شخصية وقوية مع مسئولين فى دول أجنبية على أمل أن يقبلوهم كمستشارين بمكافآت هائلة بعد انتهاء خدمتهم.
أذكر أننا، قبل عقدين أو أكثر، كنا ننتقد هذه التصرفات، ربما لأننا كنا نفكر فى سياق قيم مختلفة وفى ظل سياسات أمنية متأثرة بظروف الحرب الباردة وقصص الجاسوسية ومتأثرين بقيم الوطنية والنزاهة.
●●●
يبدو الأمر الآن لأغلبية المراقبين طبيعيا. أنا لا أراه كذلك. لا أفهم أن يقضى رجل دولة أو زعيم سياسى مرموق سنوات عديدة فى السلطة يضغط بكل الوسائل، ومنها أقصى وسائل العنف كالحرب والحصار، ليقنع شعوبا ونخبا سياسية فى دول أخرى بضرورة إسقاط الاستبداد وحكم الطغاة والتمسك بالحق فى حرية التعبير والمساواة والعدالة الاجتماعية وإقامة الديمقراطية والتزام الشفافية، وما إن تنتهى علاقة هذا الزعيم بالسلطة فى بلده إلا ونراه ضيفا مقيما أو زائرا فى قصور الحكام المستبدين والطغاة الذين سبق أن انتقد أداءهم الدكتاتورى وهاجم فساد حكمهم. نراه هناك عزيزا مكرما، يقدم النصيحة بعد المشورة عن كيفية «إسكات» الشعوب الجائعة والمقهورة والغاضبة. نراه يشارك فى رسم الخطط التى تضمن، حسب رأيه، تحسين صورة هؤلاء المستبدين والطغاة وفى الوقت نفسه تشويه صورة الشعوب «المتخلفة التى ترفض أن تتقدم»!
●●●
خدعونا هؤلاء الساسة الغربيون العظام الذين تحولوا مستشارين لحكام مستبدين فى أفريقيا والشرق الأوسط ووسط آسيا. يتصدر القائمة تونى بلير رئيس وزراء بريطانيا الأسبق، الرجل الذى ورث عن السيدة مارجريت تاتشر مهمة أو رسالة التبشير بالديمقراطية فى العالم الإسلامى والتزم كلاهما توظيف «الرئيس» الأمريكى فى خدمة هذه الرسالة النبيلة. وظفوا رونالد ريجان فى مرحلة ثم جورج بوش ووليام كلينتون فى مراحل أخرى. هكذا مهد كلاهما الطريق المؤدية إلى واحدة من أسوأ حروب التاريخ. حرضاهما ضد صدام حسين ونظامه الاستبدادى. أذكر، ولا شك يذكر متوسطو العمر بينكم، بل أحفظ عن ظهر قلب، عبارات من خطب عديدة للسيد تونى بلير تنضح بالحقد والكره ضد الاستبداد «الصدامى» والدكتاتورية البعثية وتبرر الحرب التى دمرت العراق وقتلت مئات الألوف بحجة الحاجة الإنسانية للقضاء على حاكم مستبد وبناء صرح ديمقراطى فى دولة من دول الشرق الأوسط.
●●●
نكتشف الآن، حسب رواية مجلة New Republic المرموقة فى الولايات المتحدة، وهى المجلة التى تتوجه للنخب الثقافية ونخب السلطة والحكم، نكتشف أن تونى بلير كان يخدعنا. لم يكن يكره الاستبداد والمستبدين بدليل أنه يعمل حاليا لدعم استبداد نزار باييف رئيس قازاخستان المؤبد. انتقى من تفاصيل ما نشرته المجلة أقل القليل. يقول كاتب المقال إن تونى بلير متعاقد مع حكومة نزار على خدمات واستشارات تعزز استبداد الرئيس وحكومته مقابل مبلغ 13 مليون دولار. ثم كتبت جريدة فاينانشيال تايمز البريطانية أن ثروته تقدر الآن بمبلغ 30 مليون دولار تراكمت ثمنا لمشورات ونصائح قدمها لحكومات فى وسط آسيا مثل قازاخستان وأذربيجان وحكومات عربية عديدة كثير منها متهمة بالممارسات القمعية وإهدار الحقوق السياسية والفساد، فضلا عن أنه يحصل على راتب ثابت قدره أربعة ملايين دولار سنويا من أحد البنوك الأمريكية الكبرى ليوثق صلات البنك بسياسيين عرب، وراتب ثابت آخر من حكومة الكويت.
●●●
يتداول بعض الصحف الغربية فى روايات عن علاقة تونى بلير بالعقيد القذافى وعن ستة اجتماعات عقدها بلير مع العقيد وهى الاجتماعات التى أثمرت ما يطلقون عليه فى هذه الصحف عبارة «حلف جيواستراتيجى طرفاه القذافى وبلير». كان الظن الخائب لدينا وأمثالنا من مستهلكى الشعارات القومية والوطنية و «الجماهيرية» أن الرجلين نقيضان بل عدوان لدودان. انكشفت هذه العلاقة السرية بتفاصيلها المذهلة حين وقع الإطلاع على وثائق المخابرات الليبية خلال الثورة. انكشف أيضا أن بلير ساعد سيف الإسلام القذافى فى كتابة الاطروحة التى قدمها لجامعة لندن للحصول على درجة الدكتوراه.
تقول تقارير صحفية إن تونى بلير أقنع حكاما مستبدين فى العالم الإسلامى بإنشاء «صندوق الإيمان» كعمل خيرى يجمع عن طريقه الأموال اللازمة لنشر «الاحترام والتفاهم بين الأديان» ويديره بنفسه. بمعنى آخر، لم يدع تونى بلير فرصة العصر، عصر الإتجار بالدين، تضيع منه وهى الفرصة التى تتكالب على اغتنامها هذه الأيام دول عديدة وشخصيات كثيرة وجماعات غفيرة.
●●●
بلير، وآخرون نعرفهم أو نراهم يحطون فى عاصمة عربية بعد أخرى، هم نماذج تعكس حالة رجال دولة حققوا مصالح مادية ومعنوية لبلادهم بالدعوة لإقامة عالم ديمقراطى فسيح، وراحوا بعد تخليهم عن السلطة أو تخليها عنهم يحققون مصالح مادية لأنفسهم ويضخمون أرقام حساباتهم البنكية مستفيدين من صمود الاستبداد وكرم الطغاة والفاسدين. خدعوا شعوبهم وخدعونا، وعلى هديهم تمشى قيادات جديدة.