جمعنى لقاء مع عدد من السيدات والآنسات اللائى قررن التوقف عن الاستمرار فى علاقة زواج أو خطوبة أو حب أو ارتباط من أى نوع. كان طبيعيا أن يدور النقاش بين هؤلاء «المنفصلات» حول الأسباب التى دفعتهن لاتخاذ هذه الخطوة، وكان طبيعيا أيضا أن توجد بينهن واحدة أو أكثر من العناصر «الانفصالية»، أى أولئك اللائى يحرضن على الانفصال أو التمرد، وغالبا ما تتهم هذه العناصر فى مجتمعاتنا بأنها تنفذ أجنداتها الخاصة أو تضمر نوايا تخريبية وهدامة.
بدأ النقاش باردا برودة الحياة، ولكن ما إن اقتربت السير الذاتية من ملامسة أحداث واقعية حتى بدأ يتسرب إلى النقاش الدفء متأثرا بحميمية التفاصيل، وعادت الحمرة إلى وجنات الحاضرات واشتعلت المنافسة حول مبررات الانفصال وبراءة كل منهن وأخطاء الطرف الآخر ومسئوليته عن الانفصال، بعض الأسباب والمبررات كان مألوفا، وبعض آخر كان غير عادى وغير مألوف.
أما المألوف فلم يحظ باهتمام الحاضرات وبدا تبريرا غير مقنع، فالانفصال إما أن يكون لسبب قاهر وإلا فلا داعى له. هكذا مثلا جاء رد الفعل باردا لعبارة «انفصلنا لأنه تغير». من منا لم يتغير، كلنا نتغير. أنت نفسك تغيرت. وجدت العذر لصاحبة التبرير المألوف، إذ كان ترتيبها الأولى بين عارضات الحالة حين كان الحياء مازال مقيما فى الغرفة. لم ندخل فى تفاصيل وعلامات التغير، ولم نناقش جانب العلاقة الذى أصابه التغيير أو تأثر به.
بعدها، وكان الحياء مازال لم ينحسر تماما، قالت «منفصلة» أخرى، إنهما، هى والطرف الآخر، اكتشفا معا أنهما غير مناسبين الواحد للآخر. كان المبرر مثل سابقه مألوفا وعاديا، ولعله المبرر الأكثر استدعاء فى حالات الانفصال التى صرنا نسمع عنها مرة كل أسبوع، وأحيانا كل يوم. يحدث هذا لأنه ربما كان المبرر الأكثر حيدة وموضوعية فهو لا يلقى بالمسئولية على طرف دون آخر، وتبدو المرأة من خلاله أصيلة المنبت ورفيعة الخلق.
وبسبب هذه الحيدة والموضوعية لم يحظ كما توقعت باهتمام الحاضرات، فالرجل فى نظر بعضهن على الأقل يجب أن يكون مذنبا. يكفى أنه لعب دور الطرف الأقوى فى العلاقة منذ بدايتها ومارس معتمدا على صيت رجولته.
*****
ثم جاء دور السبب الأكثر شيوعا، وإن كان الأقل استدعاء عند الحديث وبخاصة بين الأهل، وهو خيانة الرجل لشريكته فى العلاقة بإقامته علاقة أخرى مع امرأة أخرى أو علاقات متعددة مع نساء أخريات. تذكرت أنى لم أسمع إلا نادرا اتهاما مماثلا يصدر عن رجل انفصل عن خطيبته أو زوجته، بينما يظل اتهام المرأة لشريكها المنفصلة عنه بالخيانة أمرا شائعا. أخطأت فأفصحت عما دار فى ذهنى إذ جاء رد المنفصلات والانفصاليات على حد سواء عاجلا وعنيفا. «الرجال منافقون ولن يعترف أكثرهم بخيانة نسائهم لهم لأن اعترافهم يعنى خدشا لرجولتهم فى الدوائر التى يرتادونها، ويعنى نقصا فى كفاءتهم ومؤهلاتهم الذكورية أمام خصومهم. قالت منفصلة أخرى إنها لم تنتظر أن يقع بين أيديها دليل خيانة كما تفعل نساء أخريات، وإنما انفصلت عندما شعرت بأن رجلها صار أكثر استعدادا وتأهلا لإقامة علاقة أخرى، ولم تشأ أن تكون موجودة عندما تقع الواقعة.
اعترفت اثنتان من المنفصلات على هذه المبررات، بحجة أنها معروفة ومألوفة وتتداولها كل المنفصلات. قالت واحدة منهما: «دعونا نواجه أنفسنا ونتحمل المسئولية. أنا شخصيا مسئولة عن الوصول بالعلاقة إلى نهايتها، لأننى استعجلت إتمام الزواج مثل غيرى من الفتيات. بمعنى آخر قمت بحرق المراحل أو القفز فوقها بينما كان ضروريا ومفيدا للعلاقة أن نعيش كل مرحلة إلى نهايتها قبل أن ننتقل إلى الأخرى. أستطيع الآن أن أقولها بوضوح وأنصح بها جميع الفتيات، لا تحرقن العلاقة بالقفز فوق مراحلها». دعوا كل مرحلة تأخذ مجراها، دعوها تتوالى حسب ترتيبها الهادئ والمنطقى، بدءا بالتعارف ومرورا بالتودد والارتباط ثم اختلاط الرغبات فاجتماع الأهل وانتهاء بالإعلان عنها، إن الشىء الرهيب الذى يمكن أن تنتهى عنده أى علاقة بين رجل وامرأة، هى اللحظة التى يسأل كل منهما الآخر أو يسأل كل منهما نفسه السؤال القاتل، «فعلنا وجربنا كل شىء.. ماذا بعد؟.
نظرت آخر المتحدثات إلى زميلاتها طويلا قبل أن تعلن أمامهم أنها قررت الانفصال لأنها ببساطة شديدة وبدون تحميل الرجل مسئولية وبدون تنظير أكاديمى وبعيدا عن التزويق والتبرير: «زهقت». قالتها وسكتت لثوان قبل أن تنفجر فى وجوه زميلاتها قائلة «وأنتن كذلك، «كلكم زهقتوا»، وتحاولن الآن تبرير الانفصال بعرض أسباب أخرى كلها، أو أغلبها، نابعة من شعوركن بالزهق.
*********
تعالوا نفكر بالعقل وليس فقط بالعاطفة، هل يمكن أن تستمر علاقة تلفت الانتباه وتثير الاهتمام طول الوقت، 60 دقيقة 24 ساعة وسبعة أيام و365 يوما. إن لحظة واحدة يشرد فيها رجل أو امرأة تربطهما ببعضهما علاقة مستديمة قد تكون كافية لتقرير مصير العلاقة كلها، ففى هذه اللحظة قد يشعر الطرف الشارد بمتعة لم يعرف مثيلا لها من قبل. بعدها سيحاول خلسة إن أمكن أو جهارا إن واتته الشجاعة ممارسة متعة الشرود أو التأمل البرىء، ومع الوقت تتطور لحظات «التفلت» السعيدة لتصبح فجوات استمتاع طويلة، وهى اللحظات التى فضلت صديقتنا أن تطلق عليها عبارة «فترات أو تجارب الانفصال» غير المعلن عنها وغير المعترف بها فى مسيرة الارتباطات العاطفية والزوجية، ولكنها بالتكرار أو الحرمان قد تكون الطريق الأقصر نحو انفصال أطول.
نشرت جريدة صانداى تايمز قبل عشرة أيام رسائل لم تنشر من قبل بعث بها الشاعر الإنجليزى ت.س. إليوت الى أصدقائه أثناء مرض زوجته، وكانت ترددت وقتها شائعات كثيرة عن توتر فى العلاقة بينهما وأنه ربما كان سببا فى عذابها ومرضها. لم يحاول إليوت فى هذه الرسائل تبرئة نفسه ولم يلق بالمسئولية على زوجته ولكنه ألمح فى إحدى رسائله إلى أن الزوجة التى تحب الناس أكثر من نفسها تسيئ إلى بيتها وتضر بسلامة صحتها. وبالفعل كانت فيفيان تحب الناس إلى حد نكران الذات، وأعتقد أن بعض من نقابل رجالا ونساء يفعل ما كانت تفعله فيفيان غير مدرك عواقبه على علاقاته العاطفية.