إبان تاريخ الحياة السياسية العربية الحديثة، منذ عشرينيات القرن الماضى، تكونت شتى صنوف الأحزاب السياسية، أبرزها الأحزاب القومية العربية والإسلامية والليبرالية والشيوعية. ولقد كان أملا للأمة كبيرا أن تلعب تلك المؤسسات السياسية المدنية أدورا تراكمية فاعلة وإيجابية فى النضال من أجل الاستقلال الوطنى، وفى إخراج الأمة من كل أشكال الأنظمة التسلطية التاريخية التى رزحت تحتها عبر القرون، وفى انتقال المجتمعات العربية من حالات التخلف إلى حالات الحداثة.
وبالفعل طرحت شعارات الاستقلال والتحرر، ووحدة الأمة فى جسم واحد، وبناء حياة سياسية واقتصادية عادلة من قبل تكتلات مجتمعية عصرية تحت مسميات تلك الأحزاب. وقد ساعد على ذلك نصوص فى الكثير من الدساتير تجيز تنظيم المواطنين وتمثلهم فى مؤسسات لها منطلقاتها الفكرية النظرية واستراتيجياتها المفصلة وتنظيماتها التكوينية العلنية. وكان مفهوما أنها ستكون النواة الأولى للمؤسسات الدستورية من مثل البرلمانات وسلطات الحكم، وأنها ستكون تعددية منضبطة، تتنافس وتتعايش بالحوار، وتناضل بطرق سلمية قانونية، وتقبل بمبدأ تبادل سلطة الحكم حسب نتائج الانتخابات النزيهة.
لقد كان واضحا أن بناء المجتمعات السياسى والاقتصادى والاجتماعى والأمنى سيرتبط بالبناء الفكرى والتنظيمى والنضالى للمواطنين فى شكل أحزاب سياسية تنبثق من الشعب وبالشعب ومن أجل الشعب، ولها ذاتيتها المستقلة، وتقوم على منهجية وتركيبية ديمقراطية.
لكن ما كان مؤملا لم يحدث بعد أن انخرطت بعض الأحزاب فى لعبة الانقلابات العسكرية، وفى تحالفات مع سلطات حكم غير ديمقراطية، بل وأحيانا سلطات طائفية مذهبية أو قبلية عائلية منغلقة. وبدلا من أن تكون أمثولة للمواطنين فى ديمقراطيتها أصبحت هى الأخرى محكومة بقائد متحكم أو أقلية انتهازية تتلاعب بالانتخابات الداخلية وتفرض قراراتها وشعاراتها الفوقية.
وشيئا فشيئا ذهب بريق الديمقراطية من جسم وروح الأحزاب، وفقد الشباب ثقتهم فى الحياة الحزبية، وبدأ الجسم الحزبى يضمرُ فى عدد الأعضاء ونوعيتهم، وانقلب النضال إلى شعارات علاقات عامة، وهيمنت الراديكالية الأيديولوجية المتزمتة بدلا من الأخذ والعطاء والتسامح والتعاضد فى المشترك، وانقلب النضال من نضال ضد سلطات الفساد والنهب والسلب إلى معارك عبثية فيما بين الأحزاب نفسها، ولم تشفع التقاربات الفكرية ولا الأهداف السياسية والاقتصادية المشتركة لبناء تكتلات وحراكات مشتركة.
وبالطبع استفادت قوى الهيمنة والتسلط من تلك الانقسامات والصراعات العبثية وأمعنت فى خلق ظروف وشعارات الانقسامات المجتمعية، ونجحت إلى أبعد الحدود فى سياسة «فرق تسد» الشهيرة، سواء باسم الدين أو المذهب أو القبيلة أو سواء بالإدماج الزبونى فى اقتسام الغنائم المادية والمعنوية.
اليوم وصل الحال بالحياة الحزبية العربية إلى مرحلة الأزمة. ما عادت الأحزاب تنموا، وما عادت تجدد شعاراتها لتتماشى مع مستجدات العصر الهائلة، وما عاد لديها الشجاعة أو القدرة الذاتية على إجراء نقد موضوعى ذاتى لماضيها والانتقال من عثرات الماضى إلى مستقبل أفضل وأكثر فاعلية، وما عادت قادرة على الوقوف فى وجه الدولة العميقة القادرة دوما على وأد الحراكات الجماهيرية العفوية التى لا تملك القيادات الفاعلة ولا الفكر السياسى الواضح وتحتاج لعطاء ومساندة الأحزاب.
ومع ذلك فهناك مسالك تحمل الأمل والإمكانيات آن أوان التوجه نحوها، وهو ما يحتاج إلى أن يناقش بهدوء وإرادة جديدة، فلعل شباب وشابات الأمة يعودون إلى ساحة سياسية كبرى أضاعتها أجيال سبقتهم.
مفكر عربى من البحرين