أعلنت الجامعة العربية وكذلك حكومة طرابلس عن قرب اكتمال استعداداتها لعقد مؤتمر القمة العربى. وكالعادة تكثر التكهنات حول مستوى الحضور وتنعدم التكهنات أو تندر حول الموضوعات الصعبة التى يفترض أن تناقشها القمة ولا يعلن عنها وينعدم أو يكاد ينعدم الاهتمام بالقرارات المتوقع صدورها. أذكر أياما كان الشاغل الأكبر لسياسيين عرب إقناع الحكومات العربية بضرورة الالتزام بعقد قمة عربية دورية. حاول محمود رياض حين كان أمينا عاما للجامعة فى مقرها الدائم فى القاهرة،ولعلها كانت أيام البراءة، ولا أقول، طفولتنا السياسية. وحاول الشاذلى القليبى عندما كان الأمين العام للجامعة فى مقرها المؤقت فى تونس. استند الأمل وقتها إلى خمسة عناصر بدت فى ذلك الحين كافية لتشجيع الحكام العرب على الانعقاد الدورى، هذه العناصر هى:
أولا: أن يصبح الانعقاد الدورى فرصة لتصفية السلبيات التى تلحق بالعلاقات بين الحكام العرب خلال العام الفاصل بين دورتى الانعقاد، وأقول العام الفاصل لأن المسئولين عن إدارة العمل العربى المشترك لم يضعوا الآليات التى تضمن تنفيذ قرارات القمة السابقة بالقمة التى تليها. كذلك كان هناك أمل فى أن يكون الانعقاد الدورى المنتظم فرصة لتبادل الرأى بين القادة بشكل مباشر وليس عبر وسطاء أو مستشارين معروف فى العالم العربى وفى خارجه أن لبعضهم مصالح وارتباطات شخصية.
ثانيا: أن يستفيد الحكام العرب من مشاركتهم فى القمة بالحصول على دعم أو مباركة ضمنية أو علنية لنواياهم وقراراتهم فى السياسة الخارجية. هذا بالضبط ما يحاول الحصول عليه رئيس السلطة الفلسطينية بمشاركته فى المؤتمر المقبل ولا يختلف عنه الرئيس اليمنى الذى وجه الدعوة لدول أجنبية لممارسة أعمال حربية على أرض بلاده ويريد مباركة عربية شاملة لهذه الدعوة تنفعه فى اشتباكاته المتعددة مع قوى داخلية تطالبه بالتغيير. يستبعدون أيضا حين يلقون على المؤتمر بمسئولية رفض ضغوط تفرضها دول أجنبية لا تقوى حكومة عربية واحدة على رفضها أو التصدى لها، وهو ما تلح عليه حكومة الرئيس البشير وتطالب به شركاءها فى القمة، وهو أيضا ما دأبت عليه حكومات لبنان خلال الأعوام السابقة مستقوية بالجامعة فى موقفها من تدخل سوريا وضغوطاتها.
ثالثا: كان الأمل أن تؤدى دورية الانعقاد إلى أن يظهر الحكام العرب، ملوكا ورؤساء، بمظهر قادة فى دول وفى نظام إقليمى «دولى» وليسوا قادة على قبائل وجماعات فى تجمع عشائرى. ولا يخفى أن هذه السمعة مازالت سائدة فى عديد من دوائر الإعلام العالمية ودور الحكم ولم تفلح الدول العربية فى إزالتها بسبب أنماط السلوك السياسى للدول العربية فى الساحة الدولية، وبسبب وهو الأهم، فشل القمم العربية والمسئولين عن الإعداد لها ومتابعتها فى كسب مصداقية دولية لآلياتها ومناقشاتها وقراراتها.
رابعا: كان الظن فى عهود البراءة السياسية أن يبدو العرب فى ظل الانعقاد المنتظم للقمة،وعلى الأقل مرة كل عام، متفقين أو متوافقين، أمام الرأى العام العالمى فيكسبون جماعة وفرادى احترام العالم وشعوبهم.
خامسا: كان ينتظر أن يكون العمل الجماعى المنضبط والمنتظم عقبة تحول دون انفراد دولة أو مجموعة من الدول باتخاذ قرارات تعود بالضرر على الإقليم بأسره ومصالحه حتى وإن عادت بفائدة على دولة بعينها. بمعنى آخر كان أمل «التكامليين العرب» ومن تولى تمثيله فى الجامعة العربية ومنظماتها المتخصصة أن تؤدى القمة العربية الدورية إلى المحافظة على عروبة النظام العربى وحماية مصالح الأجيال المقبلة فلا يضحى بها زعيم أو حكومة من أجل مكاسب وقتية.
كانت بالفعل أيام «براءة سياسية» وكان الظن وقتها بين دعاة التقدم الإقليمى العربى وبناء الدولة الحديثة الراسخة محل الدولة الرخوة الناشئة، أن الجامعة العربية، بكل قصورها وسلبياتها، أداة صالحة لوضع أساس تكامل إقليمى متميز. كان الظن أن منبر الجامعة لن يصدر عنه ما يسىء إلى حرية الأمة العربية ومصالحها ولن تستفيد منه قوة خارجية كانت تستعمر هذه الأمة أو قوى أخرى تريد الحلول محلها. كان الأمل أن يؤدى التعود على المناقشة الصريحة وتبادل الرأى بين الحكام العرب إلى غرس الثقة فى النفس وفى العرب الآخرين وفى شعوبهم.
كانت براءة وكانت فى نظر آخرين سذاجة. هناك من يرى أن الآباء المؤسسين لفكر التكامل العربى والنهضة والتقدم فى هذه المنطقة أهملوا أو تجاهلوا حقائق كثيرة. تجاهلوا أن الانتقال من مجتمع البداوة والقبلية إلى مجتمع الدولة أصعب فى المنطقة العربية منه فى أى إقليم آخر فى العالم، وهو بالتأكيد أصعب من أفريقيا، القارة القبلية بامتياز. فالتكامل الإقليمى لا ينهض بكفاءة إلا فى نظام إقليمى تشكله دول مستقلة وذات سيادة، أى من كيانات سياسية واثقة من شعوبها ومن نفسها ومستعدة لأن تقدم تنازلات فى السيادة مقابل عائد اقتصادى أعلى ومكانة دولية أرفع لا يتحقق أى منها فى ظل التمسك «الشكلى غالبا» بالسيادة القانونية.
لم ينتبه هؤلاء التكامليون، بينما نبه إليه المتخصصون الغربيون، إلى أن الحاكم فى دولة عربية قد يتنازل سرا أو علنا عن جانب من السيادة فى الدولة التى يحكمها لدولة أو لجهة أو لشركة أجنبية وأحيانا لأفراد، ولكنه جاهز لأن يعبئ الغوغاء فى شعبه ليدخل بهم حربا فعلية أو كلامية مع دولة أو جهة عربية أخرى بظن أن سياساتها أو طموحاتها مست بالنية أو عدم القصد سيادة بلاده. رأيناها خاصية عربية كدنا ننفرد بها بين سائر الدول، ورآها آخرون مرحلة متخلفة فى تطور النخب الحاكمة أو أنها مرحلة يتفاقم فيها فساد هذه النخب ويتجذر الشعور بالعجز فلا تجد سوى جدار السيادة تدارى به فسادها وعجزها. الغريب فى أمر هذه النخب الحاكمة فى العالم العربى أن بعضا منها يشعر بأحقيته فى قيادة الأمة من «محيطها إلى خليجها» واحتكار التحدث باسمها، مستخدما التاريخ أو الدين أو القومية أو.... وهو الأمر الكاشف عن حقيقة حال هذه الأمة، مستخدما العلاقة الوثيقة بالولايات المتحدة، باعتبارها أهم من التاريخ والدين والقومية وعلى المعترض إثبات العكس. ولا أبالغ إن قلت إن هذا العامل كان مهيمنا على معظم القمم الأخيرة ولعله، كما يعتقد محللون عرب، أحد أسباب انضباطها وانتظام دوريتها.
تحطم أمل التكامليين على صخرة واقع النخب الحاكمة العربية، وعلى صخور كثيرة أخرى وإن أقل شأنا، ووقع شرخ فى منظومة آمال قوى التقدم الثقافى والعلمى والسياسى وقوى الاستقلال الوطنى تحت ضغط الانهيارات فى قيم نخب الثقافة والتعليم والمؤسسات الدينية. وصل الأمر ببعض القيادات السياسية العربية إلى حد دعوة تركيا للتوسط بين طرفين عربيين متخاصمين، وإلى حد تعريض الأمن الاستراتيجى للخطر بالدخول شركاء فى خطة، هى فى الأصل إسرائيلية، تهدف إلى تحويل الخليج ساحة حرب بين قوميتين إحداهما فارسية والأخرى صهيونية. ووصل الأمر إلى حد أسوأ كثيرا: حد التنافس بين دول عربية على استرضاء إسرائيل بعد سنوات من التنافس على عدم إغضابها. وأظن أنه سيكون مطلوبا من قمة طرابلس إقرار خطة جديدة فى استراتيجية «المواجهة!!» مع إسرائيل تقوم على فكرة إغراقها بالمبادرات، مبادرة وراء مبادرة دون توقف، لتسكين أنصار المقاومة وإبطال حجتهم ولإنهاك قدرات إسرائيل السياسية والدبلوماسية وأملا فى أن واحدة من هذه المبادرات تصيب الهدف، أيا كان، ذات يوم.
***
القمة ستقر الخطة بدون تحديد هدفها. وبعد القمة ستنهمر المبادرات ومنها طبعة محسنة لمبادرة الشهور الأربعة التى أطلقتها لجنة مبادرة السلام. وبينما المبادرات تتساقط فوق إسرائيل تكون إسرائيل قد حصلت على الاعتراف بها دولة يهودية وضمت الكتل الاستيطانية وفرضت على المجتمع الدولى الاعتراف بحقها فى السيادة على غور الأردن وهودت القدس. وبعدها يتوالى إطلاق المبادرات العربية من بطارياتها المنتشرة فى مواقع عربية عديدة.