شاب فى سن المراهقة مستلق على فراشه محملقا فى سقف الغرفة، فتاة أو سيدة تجلس أمام مرآتها دقائق وربما ساعات تنظر من خلالها إلى فتاة أو سيدة قريبة الشبه منها. موظف يشرد لدقائق وأحيانا لساعات بعيدا عن ملفات تراصت بالأكوام على مكتبه مركزا بصره على نقطة فى فضاء متسع تطل عليه نافذة تجاوره. طفل رضيع يتوقف عن الحركة لتتعلق عيناه لدقيقة أو أكثر بلا شيء محدد أمامه وفجأة يبتسم ويعود إلى الحركة.
•••
يحلمون. جميع هؤلاء يمارسون أحلام اليقظة. نحن أيضا مارسناها وكنا نمارسها خفية تفاديا لتعنيف أهالينا الذين ربما كانوا يخشون أن نسهو بسببها عن واجبات الدرس وضرورات النوم أو نغوص بفضلها فى المحرمات بعيدا عن رقابتهم. هذا الشاب يحلم بأنه هجر الدراسة ليقود جماعة من الفدائيين مسلحين بأسلحة لا تراها العين، هدفهم القضاء على العدو الذى أذل بلادنا بانتصاراته المتكررة. وهذه الفتاة تحلم بأنها أفاقت من النوم لتجد نفسها فى رشاقة عارضة الأزياء السمراء ناعومي كامبل. وهذا الموظف راح يحلم بثروة تهبط عليه فيتحول إلى صاحب شركة يوظف مئات الموظفين وبينهم رئيسه الحالى ويركب سيارة ويأكل فى مطعم ويدفع أقساط الثلاجة وأجور المدرس الخصوصى. وهذا الطفل يبتسم فى شروده لأنه راح للحظة أو أكثر يحلم بثدى يقترب من شفتيه ووجبة رضاعة ودفء حضن.
•••
احترنا، ونحن صغار، بين نصيحتين: نصيحة تدعونا للكف عن أحلام اليقظة أو على الأقل للوعى بعدم الانسياق فيها، فالانسياق فيها حسب قول الناصحين قد يؤدى إلى اختلالات عقلية. ونصيحة تشجعنا على ممارسة أحلام اليقظة. باعتبار أنها نوع من التسلية البريئة، أو لأنها حسب قول ناصحين آخرين " تجدد خلايا المخ"، أو لأنها مصدر أفكار واختراعات لا يفنى.
كبرت وتقلص الوقت المتاح لأحلام اليقظة ولكن لم يتقلص اهتمامى بها. كنت دائما من مشجعى ممارستها، مقتنعا بأنها فى المحصلة النهائية مفيدة، مع إدراكى بأن المبالغة فيها قد تؤدى إلى إدمانها، وربما إلى فقدان الصلة بالواقع وإنكاره.
•••
لم أعرف إلا أخيرا أن موضوع أحلام اليقظة على بساطته صار "علما" يدرس، وتعقد حوله ندوات وحلقات نقاش، وتؤلف فيه كتب ومقالات. كما أصبح مهنة أقيمت من أجل تعلم قواعدها وأصولها مدارس حتى الاسم حق عليه أن يتغير" أحلام اليقظة "أصبحت"التفكير الإيجابي"، والاستغراق فيها صار "تفاؤلا". حتى النصيحتان اللتان تداولهما الأهل والخبراء والأصدقاء عبر السنين تحولتا إلى نظريتين يجتهد حولهما المجتهدون وينقسم العلماء.
تحت عنوان التفكير الإيجابى نشط تيار قوى يضم عديدا من المفكرين وعلماء النفس والمربين، يدعون إلى نشر التفاؤل باعتبار أنه المحرك الأقوى لسعادة الإنسان ولعمليات الإنتاج والابتكار، بل وفى رأى سياسيين وعقائديين مفيد للاستقرار السياسى والاجتماعى. وفى الوقت نفسه خرج كثيرون يحذرون من "النتائج السلبية" للاندفاع المبالغ فيه نحو ممارسة" التفكير الإيجابى". تركز التحذير، كما تركز قبل عقود، على الخوف من أن يؤدى التفاؤل المفرط إلى تجاهل"الواقع"، مع كل ما يحمله هذا التجاهل من آثار ضارة على سلوك الأفراد والجماعات. تشير التجربة الإنسانية على مر الزمن إلى أن الإنسان يحاول دائما التفلت من هيمنة واستبداد الواقع، وبخاصة إذا كان" واقعه "أليما. يتفلت بالهجرة أو بالثورة، وأحيانا بإدمان أحلام اليقظة. وفى معظم الحالات التى اتسعت فيها الفجوة بين الواقع المعاش وأحلام اليقظة المعاشة أيضا، كانت العواقب وخيمة.
يضيف أكاديميون أن الاستغراق فى ممارسة أحلام اليقظة، أى فى التفاؤل والتفكير الإيجابى كما يطلق عليها الآن، تؤدى فى كثير من الحالات إلى غياب الحافز المطلوب لتحقيق توسع فى الإنتاج والعمل والتقدم. فالإنسان، حسب رأيهم، إذا عاش يحلم بأنه حقق المراد، كأن يحلم بأن دخله زاد، أو نجح فى الامتحان، أو حصل على وظيفة، توقف سعيه أو على الأقل خفت حماسته لتحقيق هذا الهدف. تشير الدراسات إلى أن الطالب الذى يستغرق فى حلم النجاح بتفوق قد يتسبب فى ضرر يصيب ذاكرته. مفيد لهذا الطالب، وكل طالب، أن يحلم بالنجاح بعد أن يؤدى امتحاناته، ولكن غير مفيد أن يعيش فى حلم انه نجح قبل أدائه الامتحان. وكذلك الفتاة التى تحلم صباحا ومساء بأنها صارت رشيقة القوام، إذ يحدث عادة أن تزداد شهيتها للطعام ويقل حرصها على المواظبة على التمارين الرياضية.
•••
مشكلة أخرى كشفت عنها بعض دراسات أحلام اليقظة والتفكير الإيجابى. الإنسان حين يحلم فى يقظته بمستقبل معين أو بتحقيق هدف محدد فإنه يتعود على هذا المستقبل أو هذا الهدف الذى صنعه فى خياله، وسيكون صعبا عليه أن يدرك مدى اتساع الفجوة بين المستقبل الذى صنعه لنفسه، والمستقبل الذى حل فعلا وصار واقعا يعيش فيه. يعرب بعض الدارسين عن خشيتهم من أن يصاب هذا الإنسان بخيبة أمل لاعلاج لها، إذ قد يترتب عليها نكسات نفسية وحياتية غير قليلة وغير بسيطة. بمعنى آخر، يكون إنساننا هذا الذى بالغ فى ممارسة التفاؤل على غير أساس قد عاش فترة قصيرة من السعادة المصطنعة فى مستقبل وهمى، سوف تعقبها فترة تعاسة طويلة فى مستقبل"واقعى" ممل ورتيب وأقل إثارة.
•••
من أجل أن تدقق الباحثة GABRIELE OETTINGEN فى فرضيتها حول خطورة الانسياق فى تيار التفكير الإيجابى قامت بحرمان عدد من المتطوعين من شرب الماء فى جو حار وخانق حتى بلغ بهم العطش حدا شديدا، ثم طلبت منهم أن يحلموا بكأس من الماء المثلج. وقعت المفاجأة عند الانتهاء من التجربة وانتقال المتطوعين إلى غرفة مزودة بوعاء من الماء البارد وكؤوس للشرب، إذ لم يهرع متطوع واحد نحو وعاء الماء. لم يتدافع المتطوعون كما كان المتوقع، بل ظلوا فى أماكنهم لايتحركون. بمعنى آخر، أفقدهم الحلم الطويل بكأس الماء المثلج حافز النهوض والمشى فى اتجاه الوعاء لشرب الماء. أتصور أن رواية السراب الذى يظهر لمرتادى الصحراوات الحارة تؤكد ما ذهبت إليه عالمة النفس فى جامعة نيويورك، فالحلم بوجود الماء عند الأفق يطفئ الظمأ وربما أبطأ السعى للبحث عن بئر أو واحة قريبة.
•••
من الأهمية بمكان، أن يكون لدى الإنسان رؤى وأحلام تهديه فى مسيرة حياته، ولكن من الخطورة بمكان، أن يتصور الإنسان أن هذه الرؤية وذلك الحلم قد تحققا فعلا، لمجرد أنه مقتنع بهما ومصدق لهما. المثال البارز هنا، هو المشروعات العملاقة التى يطرحها مرشح للرئاسة كوعود يتعهد بتنفيذها. لا يدرك هذا المرشح أن العقل البشرى لايميز طول الوقت تمييزا دقيقا بين الممكن وغير الممكن وبين الواقع والخيال، وأن المواطن العادى يعيش لفترة مقتنعا بأن المشروعات التى وعد المرشح بتحقيقها سوف تنفذ، ويبدأ فى تخيل نفسه مستمتعا بمنافعها وإنجازاتها.
•••
الشعوب لا تنسى الوعود ولن تقبل بأقل مما وعد به المرشحون للمناصب العامة .الوعود التى لاتنفذ تعوضها الشعوب بفقد الثقة والغضب المعلن أو المكبوت وبالتجاهل والاهمال واللامبالاة ثم بالانغماس فى أحلام اليقظة. الشعوب لاتنسى مهما طال الزمن لأنها تحلم ثم تحلم. تتفاءل بتواضع لتعيش وتستمر ولولا هذا القدر من التفاؤل لزالت واختفت أو عاشت مجتمعاتها فى عنف لا يلين. .