تحدثنا في مقالات سابقة عن "السوبركمبيوتر" (أجهزة الكمبيوتر فائقة السرعة) و عن الذكاء الإصطناعي وتطبيقاته. يتبقى الضلع الثالث من مثلث التكنولوجيا المتقدمة التي تمثل أعمدة الثورة الصناعية الرابعة، وهي أجهزة كمبيوتر صغيرة جداً تزرع داخل أجهزة استشعار لتقوم بأعمال قياس وتحليل ثم ترسل تلك البيانات والتحليلات إلى أنظمة كمبيوتر ذكية عن طريق الإنترنت لإتخاذ قرارات ذكية. في الماضي القريب كانت أجهزة الاستشعار تقوم بالقياس فقط أما الآن ومع تقدم أجهزة الكمبيوتر وصغر حجمها أصبح بالإمكان دمجها في أجهزة قياس صغيرة الحجم جداً وبذلك تصبح أجهزة القياس ذكية. لهذه الأجهزة الذكية عدة أسماء أشهرها الذي أطلقه عليها "كيفين أشتون" من شركة بروكتر آند جامبل سنة 1999، وهو: "إنترنت الأشياء"
The Internet of Things (IoT).
تلك الأجهزة أصبحت تستخدم في مجالات كثيرة ومازات تتغلغل في حياتنا وقد يمكننا الآن إضافة كلمة "الإنترنت" لكافة المجالات التي تستخدمها ومع الوقت سنضيف أيضاً كلمة "الذكية".
في "انترت الزراعة"، يمكن وضع هذه الأجهزة في الأرض الزراعية لتقوم بجمع المعلومات وتحليلها وارسالها إلى أنظمة كمبيوتر كبيرة عبر الإنترنت. وبناء على هذه المعلومات، تقوم الأنظمة باتخاذ قرارات مهمة متعلقة بأوقات الري وأوقات استخدام الأسمدة بل و نوعيتها، وأحيانا قد يتمكن الكمبيوتر أيضا من التنبؤ بحجم المحصول وحالته.
تستفيد صناعة الثروة الداجنة أيضا من هذه التكنولوجيا في تحديد مواعيد الطعام والتزاوج لتعظيم انتاج البيض مثلاً أو لتسمين الدجاج ونفس الشيء يمكن تطبيقه في صناعة الثروة الحيوانية بوجه عام.
أما "انترنت الصحة" فهو من أكثر المجالات التي تستفيد من هذه التكنولوجيا. يعتمد الكثيرون على الساعات الذكية وعلى تطبيقات التلليفونات المحمولة التي تتابع السعرات الحرارية والنبض ودرجة الحرارة بل وجودة النوم ثم يحلل الكمبيوتر تلك البيانات ويقترح تغيير في أسلوب حياة الشخص والطعام والرياضة إلخ. لعل من أذكى هذه التطبيقات تلك القادرة على التعرف على حالات الخطر -مثل الأزمة القلببية والجلطات- وتقوم تلقائيا بتنبيه المريض وبالاتصال بالإسعاف وبإرسال موقع المريض إلى المسعفين.
وفي المستشفيات تعمل تلك الأجهزة الصغيرة الذكية في غرف المرضى وغرف العمليات لمتابعة المعدلات الحيوية للمرضى ومدى نقاء الهواء في الغرفة وتحليل كل ذلك وإقتراح خطوات للعلاج أو تحسين الخطة العلاجية، طبعاً حتى الآن (وأعتقد حتى في المستقبل المنظور) يبقى القرار الأخير في يد الأطباء.
أما في "انترنت النقل" فسنجد الكثير من الاستخدامات: في السيارات ذاتية القيادة توزع أجهزة الاستشعار الذكية في أنحاء متفرقة من السيارة لمراقبة الطرق وحالة الجو وحالة الأجزاء الميكانيكية والكهربائية للسيارة ثم تحلل تلك المعلومات وقد تتبادل بعض المعلومات بين بعضها البعض ثم تحدد تلقائيا القرارات التي يجب اتخاذها أثناء القيادة. نجد تلك الأجهزة أيضاً في الطائرات حيث تراقب سرعة الرياح ودرجة الحرارة وغلرها من المؤشرات ليتم إتخاذ قرارات تلقائية دون الرجوع للطيار بإمالة الجناحأو تغيير مسار الطائرة مثلا، ونجد نفس الحال في وسائل النقل الأخرى مثل القطار والمترو. ومن المنتظر أن يزداد انتشار هذه التكنولوجيا في المستقبل القريب جداً.
وفي "انترنت التصنيع" تتواجد أجهزة الاستشعار الذكية في مصانع كثيرة حول العالم لمراقبة جودة المنتجات وكفاءة ماكينات المصنع ويتم تحليل تلك البيانات عن طريق تطبيقات الذكاء الإصطناعي وتتمكن من التنبؤ بالأعطال حتى يتمكن العاملون من تجنب وقف الإنتاج ، وذلك كله بالإضافة إلى قدرة تلك الأجهزة الذكية بإقتراح وسائل لرفع كفاءة الإنتاج بزيادته وبتقليل تكلفته.
حيث أن الطاقة من أهم شرايين الحياة ولا توجد دولة في العالم لديها إكتفاء ذاتي من مصادر الطاقة فقد كان لزاماً على علماء ومهندسي الكهرباء والإلكترونيات والكمبيوتر أن يستخدموا كل الوسائل المتاحة لتقليل استهلاك الطاقة وإكتشاف مصادر لها. وهذا هو أساس "انترنت الطاقة" فعلى سبيل المثال تستخدم تلك الأجهزة الصغيرة في محطات توليد الطاقة لتراقب كفاءة التوليد وتقليل الفاقد من الطاقة أثناء نقلها وهو ما يطلق عليها "الشبكة الذكية" (smart grid) وهي الشبكة التي تحلل استهلاك الطاقة من مختلف المناطق وكفاءة أجهزة توليد الطاقة وتتخذ قرارات ذكية تقلل الأعطال وتزيد الكفاءة، فتتنبأ مثلاً بالأعطال وتراسل المهندسين لتغيير القطع التي ستتعطل قريباً أو تساعد على توليد الطاقة من مختلف الوسائل من الطاقة المتجددة أو من غيرها من أجل تلبية الإحتياجات وتخفيف الضغط.
كل ما سبق مجرد أمثلة لأن أجهزة الاستشعار الذكية دخلت جميع مناحي الحياة وأصبحت الأساس الذي تبنى عليه ما يسمى بالمدن الذكية (smart cities) التي تستخدم الذكاء الإصطناعي وإنترنت الأشياء وأجهزة الكمبيوتر فائقة السرعة لإدارة منشأت المدينة بسرعة وكفاءة.
ما قلناه في هذا المقال ليس خيالاً علمياً وليس حكراً على الدول المتقدمة بل أننا في مصر نستطيع أن نفعل الكثير. أنا شخصياً أعرف في مصر مبرمجين مهرة جداً في برمجة أجهزة الاستشعار الذكية التي تكون "انترنت الأشياء" وأعرف مهندسين موهوبين جداً في بناء تلك الأجهزة التي تمتاز برخص ثمنها.
وبذلك يمكننا التوسع في استخدام انترنت الأشياء مع الذكاء الإصطناعي وأجهزة الكمبيوتر فائقة السرعة في رفع كفاءة الصناعات وإدارة المدن الجديدة والمرافق وتحسين جودة الحياة في مصر.